الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك : هو الجور. وقال الكلبي : هو الكذب ، وأصله : البعد فعبر به عن الجور لبعده عن العدل ، وعن الكذب لبعده عن الصدق.
(وَأَنَّا) أي : يا معشر المسلمين من الجنّ (ظَنَنَّا) أي : حسبنا لسلامة فطرتنا (أَنْ) أي : أنه وزادوا في التأكيد فقالوا (لَنْ تَقُولَ) وبدؤوا بأفضل الجنسين فقالوا (الْإِنْسُ) وأتبعوهم قرناءهم ، فقالوا (وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ) أي : الملك الأعلى الذي بيده النفع والضرّ (كَذِباً) أي : قولا هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب ، وإنما كنا نظنهم صادقين في قولهم إنّ لله صاحبة وولدا حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق قيل انقطع الإخبار عن الجنّ ههنا.
(وَأَنَّهُ) أي : الشان (كانَ رِجالٌ) أي : ذوو قوة وبأس (مِنَ الْإِنْسِ) أي : النوع الظاهر في عالم الحس (يَعُوذُونَ) أي : يلتجئون ويعتصمون خوفا على أنفسهم وما معهم إذا نزلوا واديا (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) أي : القبيل المستتر عن الأبصار ، وذلك أنّ القوم منهم كانوا إذا نزلوا واديا أو غيره من القفر تعبث بهم الجنّ في بعض الأحيان ؛ لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله ولا دين صحيح ولا كتاب من الله تعالى صريح ، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم ، فكان الرجل يقول عند نزوله : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت في أمن وفي جوار منهم حتى يصبح فلا يرى إلا خيرا ، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته ، قال مقاتل : كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله تعالى وتركوهم.
وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي وقال : يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة ، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه ، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيضلوا ويضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى : (فَزادُوهُمْ) أي : الإنس والجن باستعاذتهم (رَهَقاً) أي : ضيقا وشدّة وغشيانا ، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد : الرهق : الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس : ٢٧] وقال الأعشى (١) :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها |
|
هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا |
يعني إثما ، وقال مجاهد أيضا : زادوهم أي : أنّ الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوّذ حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن ، وقيل : لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن ، فكان الرجل مثلا يقول : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي. قال القشيري : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن.
تنبيه : قوله تعالى : (مِنَ الْإِنْسِ) صفة لرجال وكذا قوله (مِنَ الْجِنِّ.)
__________________
(١) يروى عجز البيت بلفظ :
هل يشتفي وامق لم يصب رهقا
والبيت من البسيط ، وهو في ديوان الأعشى ص ٤١٥ ، ولسان العرب (رهق).