ولكنّ الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأحوال ، فلما بعث صلىاللهعليهوسلم كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجنّ ومنع الاستراق أصلا.
وعن معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم. قلت : أرأيت قوله تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ؟) قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلىاللهعليهوسلم. وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال : «بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية»؟ فقالوا : كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال صلىاللهعليهوسلم : «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، فتسأل أهل السماء حملة العرش : ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء» (١). وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة ، قال ابن عادل : وهذا قول الأكثرين.
فإن قيل : كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ أجيب : بأنّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة. قال القرطبي : والرصد قيل من الملائكة أي ورصدا من الملائكة ، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد ، وقيل : الرصد هو الشهاب ، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول.
واختلف فيمن قال (وَأَنَّا لا نَدْرِي) أي : بوجه من الوجوه (أَشَرٌّ أُرِيدَ) أي : بعدم استراق السمع (بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ) أي : المحسن إليهم المدبر لهم (رَشَداً) أي : خيرا فقال ابن زيد : معنى الآية أن إبليس قال : لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عقابا أو يرسل إليهم رسولا. وقيل : هو من قول الجنّ فيما بينهم قبل أن يستمعوا قراءة النبيّ صلىاللهعليهوسلم أي : لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلىاللهعليهوسلم إليهم ، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذّب من الأمم ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان ، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل : قالوا لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين أي : لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثير من أهل الأرض ، فقالوا : إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون.
قال الجنّ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي : العريقون في صفة الصلاح ، قال الجلال المحلي بعد استماع القرآن (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي : قوم غير صالحين (كُنَّا) أي : كونا هو كالجبلة (طَرائِقَ قِدَداً) أي : جماعات متفرّقين وأصنافا مختلفة ، قال سعيد بن المسيب : معنى الآية كنا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا ، وقال الحسن والسدّي : الجنّ أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة وخوارج وشيعة وسنية. وقال ابن كيسان : شيعا وفرقا لكل فرقة هوى كأهواء الناس. وقال سعيد بن جبير : ألوانا شتى. وقال أبو عبيدة : أصنافا وقيل : منا الصالحون ومنا المؤمنون ، لم يتناهوا في الصلاح.
قال القرطبي : والأوّل أحسن لأنه كان في الجنّ من آمن بموسى وعيسى ، وقد أخبر الله
__________________
(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٢٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٢١٨.