بأوجه منها أنه قصد بذلك التناسب لأنّ ما قبله وما بعده منوّن منصوب. ومنها أن الكسائي وغيره من أهل الكوفة حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا أفضل منك. وقال الأخفش : سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأنّ الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. وروي عن بعضهم أنه يقول : رأيت عمرا بالألف يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأيضا هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلا ، قالوا صواحب وصواحبات. وفي الحديث : «إنكن صواحبات يوسف» (١) ومنها أنه مرسوم في الإمام أي : مصحف الحجاز والكوفة بالألف ، رواه أبو عبيدة ورواه قالون عن نافع ، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف البصرة أيضا.
وقال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أن يكون هذا التنوين بدلا من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف ، والثاني : أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرّن لسانه على صرف غير المنصرف ا. ه. قال بعض المفسرين : وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة لا سيما على مشايخ الإسلام وأئمة العلماء الأعلام ، وأما من لم ينوّنه فوجهه ظاهر لأنه على صيغة منتهى الجموع وقولهم : قد جمع نحو صواحبات لا يقدح لأنّ المحذور جمع التكسير ، وهذا جمع تصحيح ، وأما من لم يقف بالألف فواضح.
ولما أوجز في جزاء الكافر أتبعه جزاء الشاكر وأطنب تأكيدا للترتيب فقال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ) جمع برّ كأرباب جمع رب أو بار كأشهاد جمع شاهد ، وفي الصحاح وجمع البار البررة وهم الصادقون في أيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة ، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنما سماهم الله تعالى الأبرار ؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق» (٢). وقال الحسن رضي الله عنه : البرّ الذي لا يؤذي الذرّ. وقال قتادة رضي الله عنه : الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث «الأبرار الذين لا يؤذون أحدا» (٣).
(يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومن للتبعيض (كانَ مِزاجُها) أي : ما تمزج به (كافُوراً) لبرده وعذوبته وطيب عرفه ، وذكر فعل الكون يدل على أنّ له شأنا في المزج عظيما يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد ، والكافور نبت معروف وكان اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته والكافور أيضا كمام الشجر الذي هو ثمرتها ، والكافر البحر ، والكافر الليل ، والكافر الساتر لنعم الله تعالى ، والكافر الزارع لتوريته الحب في الأرض ، قال الشاعر (٤) :
وكافر مات على كفره |
|
وجنة الفردوس للكافر |
__________________
(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٦٤ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤١٨ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٧٢ ، والنسائي في الإمامة حديث ٨٣٣ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٢٣٢.
(٢) أخرجه الذهبي في ميزان الاعتدال ٥٤٠٥ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٤ / ١٦٣٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥٤٩٢ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ١٦٧ ، ٨ / ٣٦٦.
(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ١٢٥.
(٤) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.