فيها بوجه وأنها ظليلة معتدلة دائما بخلاف الدنيا ، فإنّ فيها الحاجة إلى ذلك ، والحرّ والبرد فيها من فيح جهنم ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اشتكت النار إلى ربها قالت : يا رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه من الحرّ من سمومها» (١) وقيل : الزمهرير القمر بلغة طيىء ، وأنشدوا (٢) :
وليلة ظلامها قد اعتكر |
|
قطعتها والزمهرير ما زهر |
ويروى ما ظهر.
(وَدانِيَةً) أي : قريبة مع الارتفاع (عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي : شجرها من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال. واختلف في نصب دانية ، فقال البغوي : عطف على متكئين. وقال الجلال المحلي : عطف على محل لا يرون وذكره البغوي بعد الأوّل بصيغة قيل ، قال البيضاوي : أو عطف على جنة أي : وجنة أخرى دانية لأنهم وعدوا جنتين لقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦]. فإن قيل : إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس ، والجنة لا شمس فيها فكيف يحصل الظل؟ أجيب : بأنّ أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلة منها ، وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة وإن كان لا وسخ ولا شعث.
(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها) جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي : المجنية (تَذْلِيلاً) أي : سهل تناولها تسهيلا عظيما لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كانت من اتكاء وغيره ، فإن كانوا قعودا أو مضطجعين تدلت إليهم ، وإن كانوا قياما وكانت على الأرض ارتفعت إليهم ، وقال البراء : ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاؤوا ، فمن أكل قائما لم يؤذه ومن أكل جالسا لم يؤذه ومن أكل مضطجعا لم يؤذه ، وهذا جزاؤهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله تعالى.
ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم وسكنهم وصف شرابهم بقوله تعالى : (وَيُطافُ) أي : من أي طائف كان لكثرة الخدم (عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ) جمع إناء كسقاء وأسقية وجمع الآنية أوان وهي ظروف للمياه ومعنى يطاف أي : يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشرب. ثم بين تلك الآنية بقوله تعالى : (مِنْ فِضَّةٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء أي : الذي في الجنة أشرف وأعلى ولم ينف الآنية الذهبية بل المعنى : يسقون في الأواني الفضة وقد يسقون في الأواني الذهب كما قال تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي : والبرد فنبه بذكر أحدهما على الآخر.
ولما جمع الآنية خص فقال تعالى (وَأَكْوابٍ) جمع كوب ، وهو كوز لا عروة له فيسهل الشرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة (كانَتْ) أي : تلك الأكواب كونا هو من جبلتها (قَوارِيرَ) أي : كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق ، جمع
__________________
(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٦٠ ، ومسلم في المساجد حديث ٦١٧ ، والترمذي في جهنم حديث ٢٥٩٢ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٣١٩.
(٢) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.