المراد زكاة الأعمال لا زكاة الأموال ، أي : زكى أعماله من الرياء والتقصير. وروي عن عطاء أنه قال : إنّ هذه الآية نزلت في عثمان ، وذلك أنه كان بالمدينة منافق له نخلة مائلة إلى دار رجل من الأنصار ، إذا هبت الريح تساقط منها بسر ورطب في دار الأنصاري فيأكل هو وعياله من ذلك ، فخاصمه المنافق ، فذكر الأنصاري ذلك للنبيّ صلىاللهعليهوسلم فأرسل خلف المنافق وهو لا يعلم نفاقه فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «إنّ أخاك الأنصاري ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع في منزله فيأكل هو وعياله منه فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها؟ قال : أبيع عاجلا بآجل لا أفعل» فذكروا أنّ عثمان قد أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته. ويقول فيه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) وفي المنافق (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر
وقرأ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أبو عمرو بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب ، ومعناه على القراءة الأولى : بل يؤثرون الأشقون ، وعلى القراءة الثانية : بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا بالعز الحاضر مع أنها شرّ وفانية اشتغالا بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات على الاستكثار من الثواب.
(وَالْآخِرَةُ ،) أي : والحال أنّ الدار التي هي غاية القصد المبرأة عن العيب المنزهة عن الخروج عن الحكمة (خَيْرٌ ،) أي : من الدنيا (وَأَبْقى) لأنها تشتمل على السعادة الجسمانية ، والروحانية ، والدّنيا ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا ولأنّ الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك ، ولأنّ الدنيا فانية والأخرة باقية ، والباقي خير من الفاني.
وعن عمر : ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا : لا. قال : لأنّ الدنيا أحضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وأنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.
والإشارة في قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) إلى قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى قوله (خَيْرٌ وَأَبْقى ،) أي : هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل : إلى ما في السورة كلها ، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس. وقال الضحاك : إنّ هذا القرآن لفي الصحف الأولى ولم يرد أنّ هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف ، وإنما معناه أنّ معنى هذا الكلام في تلك الصحف.
ثم بين تلك الصحف وهي المنزلة قبل القرآن بقوله تعالى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ) وقدمه لأنّ صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر (وَمُوسى) وختم به لأنّ الغالب على كتابه الأحكام والمواعظ فيه قليلة ، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وروي عن أبيّ ابن كعب «أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كم أنزل الله تعال من كتاب؟ فقال : مائة وأربعة كتب ، منها على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسون صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» (١). وقيل : في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه ، مقبلا على شأنه. وعن عائشة قالت : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب (سَبِّحِ
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١ / ١٨٠.