ثم بين سبب جوازها بقوله تعالى : (فَكُّ ،) أي : الإنسان (رَقَبَةٍ ،) أي : خلصها من الرق وذلك بأن يعتق رقبة في ملكه أو يعطي مكاتبا ما يصرفه في فك رقبته. روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه» (١). قال الزمخشري : وفي الحديث : «أنّ رجلا قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم دلني على عمل يدخلني الجنة. قال : تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال : أو ليسا سواء؟ قال : لا إعتاقها أن تنفرد بعتقها ، وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم ، والعتق والصدقة من أفضل الأعمال» (٢).
وعن أبي حنيفة أن العتق أفضل من الصدقة ، وعن صاحبيه : الصدقة أفضل. قال الزمخشري : والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق. وقال عكرمة : يعني فك رقبته من الذنوب. وقال الماوردي : ويحتمل أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات ، ولا يمنع الخبر من هذا التأويل وهو أشبه بالصواب.
(أَوْ إِطْعامٌ ،) أي : دفع الإطعام لشيء له قابلية ذلك. (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ،) أي : مجاعة ، والسغب : الجوع.
(يَتِيماً ،) أي : إنسانا صغيرا لا أب له (ذا مَقْرَبَةٍ ،) أي : ذا قرابة لك بأن كان بينك وبينه قرابة ، يقال : فلان ذو قرابتي ، وذو مقربتي.
(أَوْ مِسْكِيناً) وهو من له مال أو كسب يقع موقعا من كفايته ، ولا يكفيه. (ذا مَتْرَبَةٍ ،) أي : لصوق بالتراب لفقره. يقال : ترب إذا افتقر ، ومعناه : التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى ، أي : صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل : أثرى. وعنه صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (ذا مَتْرَبَةٍ :) «الذي مأواه المزابل» قال ابن عباس رضي الله عنهما : «هو المطروح على الطرق الذي لا بيت له». وقال مجاهد : وهو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة : أنه ذو العيال. واحتج بهذه الآية على أنّ المسكين يملك شيئا لأنه لو كان لا يملك شيئا لكان تقييده بقوله تعالى : (ذا مَتْرَبَةٍ) تكريرا. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة برفع الكاف وجرّ رقبة وكسر همزة إطعام وفتح العين وبعدها ألف ورفع الميم منوّنة ، والباقون فك بنصب الكاف رقبة بالنصب أطعم بفتح الهمزة والعين والميم بغير تنوين ، ولا ألف بين العين والميم.
فإن قيل : قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) إلى آخره ذكر لا مرّة واحدة. قال الفرّاء والزجاج : والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد لا كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١]؟.
أجيب : بأنه إنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) قائما مقام التكرير فكأنه قال : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ولا آمن. وقال الزمخشري : هي متكرّرة في المعنى : لأنّ معنى فلا اقتحم العقبة فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا ، ألا ترى أنه
__________________
(١) أخرجه البخاري في الكفارات حديث ٦٧١٥ ، ومسلم في العتق حديث ١٥٠٩.
(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٦٩ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٨١ ، والبخاري في الأدب المفرد ٦٩ ، والبيهقي في السنن الكبرى ١٠ / ٢٧١ ، والبغوي في تفسيره ٥ / ٢٥٧.