وقوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا) «كم» للتكثير ، أي : كم ترك هؤلاء المغترّون من كثرة الجنّات والعيون ، فروي أنّ الجنات كانت متّصلة / ضفّتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان ، وأمّا العيون فيحتمل أنّه أراد الخلجان ، فشبهها بالعيون ، ويحتمل أنّها كانت ونضبت ، ذكر الطّرطوشيّ في «سراج الملوك» له ، قال : قال أبو عبد الله بن حمدون : كنت مع المتوكّل لما خرج إلى دمشق ، فركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك ، فنظر إلى قصورها ، ثم خرج ، فنظر إلى دير هناك قديم حسن البناء بين مزارع وأشجار ، فدخله ، فبينما هو يطوف به إذ بصر برقعة قد ألصقت في صدره ؛ فأمر بقلعها ، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات : [الطويل]
أيا منزلا بالدّير أصبح خاليا |
|
تلاعب فيه شمأل ودبور |
كأنّك لم يسكنك بيض أوانس |
|
ولم تتبختر في قبابك حور |
وأبناء أملاك غواشم سادة |
|
صغيرهمو عند الأنام كبير |
إذا لبسوا أدراعهم فعوابس |
|
وإن لبسوا تيجانهم فبدور |
على أنّهم يوم اللّقاء ضراغم |
|
وأنّهمو يوم النوال بحور |
ليالي هشام بالرّصافة قاطن |
|
وفيك ابنه يا دير وهو أمير |
إذ العيش غضّ والخلافة لذّة |
|
وأنت طروب والزّمان غرير |
وروضك مرتاد ونورك مزهر |
|
وعيش بني مروان فيك نضير |
بلى فسقاك الغيث صوب سحائب |
|
عليك لها بعد الرواح بكور |
تذكّرت قومي فيكما فبكيتهم |
|
بشجو ومثلي بالبكاء جدير |
فعزّيت نفسي وهي نفس إذا جرى |
|
لها ذكر قومي ـ أنّة وزفير |
لعلّ زمانا جار يوما عليهم و |
|
لهم بالّذي تهوى النفوس ـ يدور |
فيفرح محزون وينعم بائس |
|
ويطلق من ضيق الوثاق أسير |
رويدك إنّ / الدّهر يتبعه غد |
|
وإنّ صروف الدّائرات تدور |
فلما قرأها المتوكّل ، ارتاع ، ثم دعا صاحب الدّير ، فسأله عمّن كتبها ، فقال : لا علم لي به ، وانصرف ، انتهى ، وفي هذا وشبهه عبرة لأولي البصائر المستيقظين ، اللهم ، لا تجعلنا ممّن اغترّ بزخارف هذه الدار!!.
[من الطويل]