وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) قال الغزّاليّ في «الإحياء» : الفكر والذّكر أعلى مقامات الصالحين ، وقال ـ رحمهالله ـ : اعلم أنّ الناظرين بأنوار البصيرة علموا أن لا نجاة إلّا في لقاء الله عزوجل ، وأنّه لا سبيل إلى اللقاء إلّا بأن يموت العبد محبّا لله تعالى ، وعارفا به ، وأنّ المحبّة والأنس لا يتحصّلان إلّا بدوام ذكر المحبوب ، وأنّ المعرفة لا تحصل إلّا بدوام الفكر ، ولن يتيسّر دوام الذّكر والفكر إلّا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضّرورة ، ثم قال : والقرآن جامع لفضل الذّكر والفكر والدّعاء مهما كان بتدبّر ، انتهى.
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ(١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٧)
وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ...) الآية ، قال أكثر الناس : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وقالت فرقة : بل هي محكمة ؛ قال* ع (١) * : الآية تتضمّن الغفران عموما ، فينبغي أن يقال : «إنّ الأمور العظام ، كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك ـ قد نسخت غفرانه ، آية السّيف والجزية ، وما أحكمه الشرع لا محالة ، وأنّ الأمور الحقيرة كالجفاء في القول ونحو ذلك تحتمل أن تبقى محكمة ، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى.
وقوله (أَيَّامَ اللهِ) قالت فرقة : معناه : أيام إنعامه ، ونصره ، وتنعيمه / في الجنة ، وغير ذلك ، وقال مجاهد : (أَيَّامَ اللهِ) : أيام نقمه وعذابه (٢) ، وباقي الآية بيّن.
وقوله سبحانه : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ...) الآية ، قد تقدّم بيان نظيرها في سورة يونس وغيرها.
(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ
__________________
ـ ينظر : «الشواذ» ص : (١٣٩) ، و «المحتسب» (٢ / ٢٦٢) ، و «الكشاف» (٤ / ٢٨٨) ، و «المحرر» (٥ / ٨٢)
(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٨ / ٨٢)
(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٨٣)