(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢٥)
وقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي : الدنيا وشهواتها ؛ قال الغزاليّ في «الإحياء» : اعلم أنّ رأس الخطايا المهلكة هو حبّ الدنيا ، ورأس أسباب النجاة هو التجافي بالقلب عن دار الغرور ، وقال رحمهالله : اعلم أنّه لا وصول إلى سعادة لقاء الله سبحانه في الآخرة إلّا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ، ولا تحصل المحبة إلّا بالمعرفة ، ولا تحصل المعرفة إلّا بدوام الفكر ، ولا يحصل الأنس إلّا بالمحبة ودوام الذكر ، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلّا بانقلاع حبّ الدنيا من القلب ، ولا ينقلع ذلك إلّا بترك لذّات الدنيا وشهواتها ، ولا يمكن ترك المشتهيات إلّا بقمع الشهوات ، ولا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات ، انتهى.
وقرأ ابن كثير (١) وغيره : «يحبّون» و «يذرون» بالياء على ذكر الغائب ، ولما ذكر سبحانه الآخرة ، أخبر بشيء من حال أهلها فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي : ناعمة ، والنضرة : النعمة وجمال البشرة ؛ قال الحسن : وحقّ لها أن تنضّر وهي تنظر إلى خالقها (٢).
وقوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) حمل جميع أهل السّنّة هذه الآية على أنّها متضمنة رؤية المؤمنين لله عزوجل بلا تكييف ولا تحديد / كما هو معلوم موجود ، لا يشبه الموجودات ، كذلك هو سبحانه مرئيّ لا يشبه المرئيّات في شيء ؛ فإنّه ليس كمثله شيء لا إله إلّا هو ، وقد تقدم استيعاب الكلام على هذه المسألة ، وما في ذلك من صحيح الأحاديث ، والباسرة : العابسة المغمومة النفوس ، والبسور : أشد العبوس ، وإنّما ذكر تعالى الوجوه ؛ لأنّه فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غمّ ، والمراد أصحاب الوجوه ، والفاقرة : المصيبة التي تكسر فقار الظهر ؛ وقال أبو عبيدة : هي من فقرت [البعير] إذا وسمت أنفه بالنار (٣).
__________________
(١) وقرأ بها أبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب.
ينظر : «إعراب القراءات» (٢ / ٤١٦) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٠٦) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٨١) ، و «العنوان» (٢٠٠) ، و «حجة القراءات» (٧٣٦) ، و «شرح شعلة» (٦١٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٧٤)
(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٤٣) رقم (٣٥٦٥٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٤) ، وابن عطية (٥ / ٤٠٥) ، وابن كثير (٤ / ٤٥٠)
(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٥)