وهكذا يجب أن تصور القصة مشهد العفة والطهر ، وأن تمجد الفضيلة والشرف وأن تربي الناس على صون الأعراض والتحلي بالمكارم.
وبينما كانت تجذبه إليها وتشده ليقع عليها ، وكان يحاول التفلت منها والبعد عنها ، طرق الباب ، وجاءه المخلص ، فاتجه سريعا نحوه ، وقامت لتسبقه إليه ، إذ لم يبق مجال لفعل ما همت به ، وشقت قميصه وهي تتعلق به.
ووجدها زوجها متلبسة بفعلتها الشنيعة ، فسارعت إلى إلقاء التهمة على يوسف ، واقتراح العقاب المناسب له ، وهو عقاب لا خطر منه على حياته ، فهي ترغب في بقائه حيا ، لعلها تظفر بما تطلبه منه.
وتكلم يوسف بكلام صريح لا تلثعم فيه ، فقال : " هي راودتني عن نفسي" إذ لا تنفع التورية في رد التهمة ، وقيض الله حكما من ذويها يقول :
إن كان قميصه شق من الأمام فهي الصادقة ، لأنها تكون قد دفعته وهو يطلبها وإن كان قميصه شق من الخلف فهي الكاذبة ، لأنها تكون قد شدته وهو يفر منها.
وحين تبين صدق يوسف ، وظهرت براءته ، فإن الزوج لم يغضب على المرأة التي أرادت أن تدنس عرضه وتلطخ شرفه ، بل اكتفى بالعتاب الرقيق واللوم الخفيف ، وطلب من يوسف أن يعرض عن تلك المسألة ، ولا يبوح بها. وهذا يدل على ما كان عليه ذلك المجتمع من الميوعة والتحلل ويضفي مزيدا من الإجلال والإكبار لمن حافظ على الطهارة والعفة فيه :
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ (٣٥) قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها (٣٦) لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٣٧)
وما أسرع ما تنتشر مثل هذه الأخبار بين الناس ، وما أكثر ما يجعلونها أحاديث للتسلية والفكاهة ، وقد تضاعف اهتمامهم بها لأن المرأة لم تكن من عوام النساء ، بل كانت ذات مكانة مرموقة ، لأنها زوج أمير مصر. ولم تخجل السيدة الجليلة من تلك الأقاويل ، بل جمعت لداتها من النساء ، وقدمت لهن الفاكهة والمأكولات التي تحتاج إلى التقطيع بالسكين