ذلك بعد التباس الأمر عليهم ، أو علمت الجن أن كفارهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم كاذبون في دعوى ذلك (فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) يعني الخدمة التي كانوا يخدمون سليمان وتسخيره لهم في أنواع الأعمال ، والمعنى لو كانت الجن تعلم الغيب ما خفي عليهم موت سليمان.
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) سبأ : قبيلة من العرب سميت باسم أبيها الذي تناسلت منه ، وقيل : باسم أمها ، وقيل : باسم موضعها ، والأول أشهر ، لأنه ورد في الحديث ، وكانت مساكنهم (١) بين الشام [الشام هي جبال في اليمن] واليمن (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) كان لهم واد ، وكانت الجنتان عن يمينه وشماله ، وجنتان بدل من آية أو مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف (كُلُوا) تقديره : قيل : لهم كلوا من رزق ربكم ، قالت لهم ذلك الأنبياء ، وروي أنهم بعث لهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي كثيرة الأرزاق طيبة الهواء سليمة من الهوام (فَأَعْرَضُوا) أي أعرضوا عن شكر الله ، أو عن طاعة الأنبياء (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) كان لهم سدّ يمسك الماء ليرتفع فتسقى به الجنتان ، فأرسل الله على السد الجرذ ، وهي دويبة خربته فيبست الجنتان ، وقيل : لما خرب السدّ حمل السيل الجنتين وكثيرا من الناس ، واختلف في معنى العرم : فقيل هو السدّ ، وقيل هو اسم ذلك الوادي بعينه ، وقيل معناه الشديد ، فكأنه صفة للسيل من العرامة ، وقيل هو الجرذ الذي خرب السدّ ، وقيل : المطر الشديد (أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) الأكل بضم الهمزة المأكول ، والخمط شجر الأراك ، وقيل : كل شجرة ذات شوك ، والأثل شجر يشبه الطرفا والسدر شجر معروف ، وإعراب خمط بدل من أكل ، أو عطف بيان وقرئ بالإضافة وأثل عطف على الأكل لا على خمط ، لأن الأثل لا أكل له ، والمعنى أنه لما أهلكت الجنتان المذكورتان قيل : أبدلهم الله منها جنتين بضد وصفهما في الحسن والأرزاق (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٢) معناه لا يناقش ويجازى بمثل فعله إلا الكفور ؛ لأن المؤمن قد يسمح الله له ويتجاوز عنه (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) هذه الآية وما بعدها وصف حال سبأ قبل مجيء السيل وهلاك جناتهم ، ويعني بالقرى التي باركنا فيها الشام ، والقرى الظاهرة قرى متصلة من بلادهم إلى الشام ، ومعنى ظاهرة يظهر بعضها من بعض لاتصالها ، وقيل : مرتفعة في الآكام ، وقال ابن عطية : خارجة عن المدن كما
__________________
(١). قوله سبحانه : مسكنهم : قرأ الكسائي مسكنهم بكسر الكاف والنون ، وقرأ حفص وحمزة في مسكنهم بفتح الكاف. وقرأ الباقون : مساكنهم بالجمع.
(٢). قرأ حمزة والكسائي وحفص : (نجازي) وقرأ نافع وغيره : يجازي بالرفع على ما لم يسم فاعله.