وذلك أن الذين أسرفوا على أنفسهم ، إن أراد بهم الكفار فقد اجتمعت الأمة على أنهم إذا أسلموا غفر لهم كفرهم وجميع ذنوبهم ؛ لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الإسلام يجبّ ما قبله (١) ، وأنهم إن ماتوا على الكفر فإن الله لا يغفر لهم ، بل يخلدهم في النار ، وإن أراد به العصاة من المسلمين فإن العاصي إذا تاب غفر له ذنوبه ، وإن لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فالمغفرة المذكورة في هذه الآية ، يحتمل أن يريد بها المغفرة للكفار إذا أسلموا أو للعصاة إذا تابوا ، أو للعصاة وإن لم يتوبوا إذا تفضل الله عليهم بالمغفرة ، والظاهر أنها نزلت في الكفار ، وأن المغفرة المذكورة هي لهم إذا أسلموا ، والدليل على أنها في الكفار ما ذكر بعدها إلى قوله وقد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني اتبعوا القرآن وليس أن بعض القرآن أحسن من بعض ، لأنه حسن كله. إنما المعنى أن يتبعوا بأعمالهم ما فيه من الأوامر. ويجتنبوا ما فيه من النواهي ، فالتفضيل الذي يقتضيه أحسن إنما هو في الإتباع ، قيل : يعني اتبعوا الناسخ دون المنسوخ وهذا بعيد (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) في موضع مفعول من أجله تقديره : كراهية أن تقول نفس وإنما ذكر النفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكفار (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في حق الله وقيل : في أمر الله وأصله من الجنب بمعنى الجانب ثم استعير لهذا المعنى (السَّاخِرِينَ) أي المستهزئين (بَلى) جواب للنفس التي حكى كلامها ولا يجاوب ببلى إلا النفي وهي هنا جواب لقوله : لو أن الله هداني لكنت من المتقين ؛ لأنه في معنى النفي ، لأن لو حرف امتناع. وتقرير الجواب بل قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل وإنزاله الكتب. وقال ابن عطية : هي جواب لقوله : لو أن لي كرة فإن معناه يقتضي أن العمر يتسع للنظر فقيل له بلى على وجه الرد عليه ، والأول أليق بسياق الكلام لأن قوله : قد جاءتك آياتي تفسير لما تضمنته بلى (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) يحتمل أن يريد سواد اللون حقيقة أو يكون عبارة عن شدة الكرب (بِمَفازَتِهِمْ) (٢) أصله من الفوز والتقدير بسبب فوزهم ، وقيل معناه : بفضائلهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قائم بتدبير كل شيء.
__________________
(١). قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك لعمرو بن العاص حينما أراد أن يسلم ويشترط العفو عما سبق منه سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٧٨.
(٢). قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : بمفازاتهم. بالجمع وقرأ الباقون بمفازتهم.