أمّا العلم الارتكازي فهو ما يكون المعلوم فيه مبتليا بالإبهام والغموض من بعض حيثيّاته بحيث يكون أصل الشيء معلوما إلاّ أنّ فيه تشويشا وإبهاما أو تكون هذه الحيثيّات المبهمة مختزنة في دفائن النفس نحتاج في إبرازها إلى منطقة الوعي إلى بعض المنبّهات.
ومثال ذلك معرفة الله عزّ وجلّ ، فإن كلّ أحد من الناس مفطور على معرفة الله جلّ وعلا ، إلاّ أنّ هذه المعرفة مكتنفة بشيء من الغموض نتيجة الحجب المكتسبة عن الشبهات والأوهام المثارة من اللذين طبع الله على قلوبهم ، فلذلك يكون دور الأنبياء عليهمالسلام دور التنبيه على الفطرة المختزنة في كلّ نفس ، قال الله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (١) ، وقال تعالى على لسان إبراهيم عليهالسلام : ( فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) (٢) ، وما هذا القول من إبراهيم إلاّ تنبيه على ما هو مغروس في جبلّة الإنسان.
ومع اتّضاح الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الارتكازي يتّضح الجواب على إشكال الدور ، إذ تكون مهمّة التبادر هي التنبيه على ما هو مرتكز في النفس من العلاقة بين اللفظ والمعنى ، فصحّ أن يكون التبادر علّة للعلم بالوضع ولكن التفصيلي منه وأنّه معلول للعلم بالوضع ولكنّه الارتكازي منه.
__________________
(١) سورة لقمان : آية ٢٥ ، سورة الزمر : آية ٣٨
(٢) سورة البقرة : آية ٢٥٨