فلو قد أراد أهل الشام أن يتقوا الفتنة والحرب حقاً لرفعوا المصاحف ودعوا إلى ما فيها قبل بدء القتال ، ولكنهم لم يفعلوا ، وما أكثر ما ذكّروا بالقرآن فلم يذكروه ، وما أكثر ما ردّوا سفراء عليّ دون أن يعطوهم الرضا أو شيئاً يشبه الرضا ، فما كان رفعهم للمصاحف بعد أن اتصلت الحرب أياماً وأسابيع ، وبعد أن توادع الجيشان شهر المحرم كله ، إلاّ كيداً لا يتقون به الفتنة ، وإنّما يتقون به الهزيمة.
وأكبر الظن انّ بعض الرؤساء من أصحاب عليّ لم يكونوا يُخلصون له نفوسهم ولا قلوبهم ، ولم يكونوا ينصحون له ، لأنّهم كانوا أصحاب دنيا لا أصحاب دين ، وكانوا يندمون في دخائل أنفسهم على تلك الأيام الهيّنة الليّنة الّتي قضوها أيام عثمان ينعمون بالصلات والجوائز والإقطاع.
ولست أذكر من هؤلاء إلاّ الأشعث بن قيس الكندي ، ذلك الّذي أسلم أيام النبيّ ثمّ ارتدّ بعد وفاته ، وألّب قومه حتى ورطّهم الحرب ثمّ أسلمهم وأسرع إلى المدينة تائباً ، فلم يعصم دمه من أبي بكر فحسب ، ولكنه أصهر إليه وتزوّج اخته أم فروة ، ثمّ خمل في أيام عمر وظهر في أيام عثمان فتولى له بعض أعماله في فارس ، فلمّا همّ عليّ أن ينهض إلى الشام عزله عن ولايته ، ويقال انّه طالبه بشيء من مال المسلمين ، ثمّ استصحبه واستصلحه ، فلمّا رُفعت المصاحف ودُعي إلى التحكيم كان أشدّ الناس على عليّ في الدعاء إلى قبول التحكيم.
ويجب أن نذكر أيضاً انّ عليّاً لم ينهض إلى الشام بأهل الكوفة وبمن تابعه من أهل الحجاز وحدهم ، وإنّما نهض كذلك بألوف من أهل البصرة كان منهم