وهذا الكتاب كما يفيض أسىً ولوعة ، مع حرارة لها لذعة ، هو آية في الفصاحة والبلاغة ، قال ابن أبي الحديد في تعقيبه عليه : « أنظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها وتملكه زمامها؟ واعجب لهذه الألفاظ المنصوبة ، يتلو بعضها بعضاً كيف تواتيه وتطاوعه ، سهلة سلسة ، تتدفق من غير تعسّف ولا تكلّف حتى انتهى إلى آخر الفصل ، فقال : يوماً واحداً ، ولا ألتقي بهم أبداً. وأنت وغيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة ، جاءت القرائن والفصائل تارة مرفوعة ، وتارة مجرورة ، وتارة منصوبة ، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلّف أثر بيّن ، وعلامة واضحة ، وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ، ذكره عبد القاهر قال : « انظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة ، الأولى منصوبة الفواصل ، والثانية ليس فيها منصوب أصلاً ، ولو مزجت احدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا ، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما.ثمّ انّ فواصل كلّ واحدة منهما تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية ».
ثمّ انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل كيف قال : ولداً ناصحاً وعاملاً كادحاً ، وسيفاً قاطعاً ، وركناً دافعاً ، لو قال : ولداً كادحاً ، وعاملاً ناصحاً ، وكذلك ما بعده لما كان صواباً ، ولا في المواقع واقعاً ، فسبحان من منح هذا الرجل بهذه المزايا النفسية ، والخصائص الشريفة ، أن يكون غلام من أبناء مكة ينشأ بين أهله ، لم يخالطه الحكماء وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الآلهية من افلاطون وأرسطو ، ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية ، لأن قريشاً لم يكن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلك ، وخرج أعرف بهذا الباب من