والحيلة. ولكنه كان يزدري الحيلة الملتوية ، ويمقت ما يسميه الناس استغلال الفرصة إذا كان فيه ما يخجل الخُلق. وكان يرفع نفسه عن المكر والكيد ، ولو جاءاه بالنصر ، ويأبى إلاّ الصراحة والصدق ، أو ليس هو القائل بصدد ما شاع في زمانه عن دهاء معاوية ، وقعوده هو عن مثل هذا الدهاء ـ (والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى العرب) ـ.
وقد أشبعنا هذه الناحية درساً مباشراً أو غير مباشراً فما بنا حاجة للعودة إليها الآن ، وإنّما نذكرها بمعرض الحديث عن حادثتي صفين ـ يعني استيلاء الإمام على الماء بعد ان أجلى جند معاوية عنه ثمّ أباحه لهم ، ويعني تمكنّه من قتل عمرو بن العاص ثمّ عفته عنه لأنّه شغر برجله وأبدى عورته ـ لنرى إلى أيّ حد يعجز بعض خصومه وبعض محبيه عن إدراك شخصيته إدراكاً صحيحاً شاملاً ، فإذا بأولئك يتهمّونه بالتقصير في الميدان السياسي ، وإذا بهؤلاء يأسفون لفرصتين لم يستغلهما في الميدان الحربي ، وكلّهم مخطئ بمقياس الشخصية العلوية ، لأنّ مفاهيم السياسة وقواعد الحرب عند الإمام نابعة من معين واحد لا يتجزأ ولا يتقطع ، هو الشخصية العلوية ، أو قل : الروح العلوية الّتي يُصدّق بعضها بعضاً ، وتستند مآتيها الواحد إلى الآخر ، ولا مقياس لديها أجلّ وأعظم من الوجدان السليم والخلق الكريم اللذين يكمنان عنده وراء كلّ قاعدة وكلّ شريعة.
ثمّ إنّ قولاً غير هذا نرى من الخير أن نثبته في هذا المقام. تحدّث إليَّ مرة صديق أديب يُعنى بشؤون الإسلام قال : وكأنه ينزع عن ألسنة سائر القائلين : لن تقنعني بأنّ عليّاً كان خبيراً بأحوال السياسة وأمور الرجال ، وبأنّه كان من الموهبة