فإنّ الذّمّة لا تبرأ بيقينٍ في هذا ونحوه إلّا بالإتيان بجميع الأفراد ؛ لأنّ الشغل اليقينيّ بالتكليف يستدعي الفراغ اليقينيّ منه ؛ لأنّ الحقّ فيما نحن فيه وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ المقتضي لوجوب الامتثال موجود ، والمانع منه مفقود ، وكلّما كان كذلك اجتمعت شرائط تنجّز التكليف من الخبير اللطيف.
أمّا المقتضي ؛ فلأنّ المفروض ثبوت الأمر في الواقع بالواجب المردّد ، الشامل للعالم والجاهل ؛ لعدم اختصاص موضوع الوجوب في الأوامر بالعالم ، وإلّا لزم الدور ، لتوقّف العلم بالوجوب على الوجوب ، فلو توقّف الوجوب على العلم دار.
وأمّا عدم المانع ؛ فلأنّ المتصوّر منه ليس إلّا الجهل بشخص الفرد المكلّف به ، وهو لا يصلح للمانعيّة ؛ لعدم استقلال العقل بمعذوريّة الجاهل بسبب عجزه عن الإتيان بالواقع ؛ لجواز التكليف بالمجمل في الجملة ، كما اعترف به مَنْ قال بتحكيم أصل البراءة (١).
ولمنع عدم قابليّة الجاهل لتوجّه التكليف إليه ، وإلّا لزم جواز المخالفة القطعيّة ، ولجاز إهمالُ الواجب المعلوم إجمالاً ، وقبُحَ عقاب الجاهل المقصّر على ترك الواجبات وفعل المحرّمات الواقعيّة ، ولعدم جريان أدلّة البراءة في مثل المقام ؛ لاستلزام العمل بها في كلّ من الفردين بخصوصه طرحها بالنسبة إلى أحدهما المعيّن عند الله ، فإنّ وجوب ذلك الأحد ممّا لم يحجب الله علمَهُ عنّا ، فليس موضوعاً عنّا ، ولا نحن في سعةٍ منه ، فإنّ العلم بوجوب كلٍّ منهما لنفسه وإنْ كان محجوباً عنّا ، إلّا إنّ العلم بوجوبه من باب المقدّمة ليس كذلك ، مع معارضة أخبار البراءة بأخبار الاحتياط الكثيرة.
وممّن اختار هذا الطّريق المحدّث المنصف الشيخ يوسف العصفوري قدسسره النّوريّ فإنّه قال في مقدّمة الحدائق : ( ومن الاحتياط الواجب بالجمع بين الأفراد المشكوك فيها : ما إذا اشتغلت ذمّته يقيناً ، لكن تردّد بين فردين أو أزيد من أفراد ذلك الواجب ، فإنّه يجب عليه الإتيان بالجميع ، ومنهُ مَنْ اشتغلَت ذمّته بفريضة
__________________
(١) مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٩.