يزال الناسُ بخير ما تَبايَنوا ، فإذا تَساوَوْا هَلَكوا ، وأصلُ هذا أن الخيرَ في النادر من النّاس ، فإذا استَوى الناسُ في الشرّ ولم يكن فيهم ذُو خَيْر كانوا من الهلْكى.
وقال الفراء : يقال هم : سَواسِيَة : يَستوُون في الشرّ ، ولا أقول في الخير ، وليس له واحد.
وحُكي عن أبي القَمْقام : سَواسِيه ، أراد سَواء ، ثم قال سِيَة ، ورُوي عن أبي عمرو بن العَلاء أنه قال : ما أشدَّ ما هجا القائلُ وهو الفرزدق :
سَواسِيّه كأَسْنان الحِمار
وذلك أن أسْنَانَ الحِمار مستويَة.
وقولُ الله جلّ وعزّ : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : ٢٩].
قال الفراء : الاستواء في كلام العرب على جهتين : إحداهما أن يَستوِيَ الرجلُ ويَنتهي شَبابُه وقوَّتُه ، أو يستوي من اعوجاج ، فهذان وجهان ، ووجهٌ ثالث أن تقول : كان فلانٌ مُقبِلا على فلان ثم استَوى عليَّ وإليّ يُشاتمُني ، على معنى : أقبلَ إليَّ وعَليّ ، فهذا معنى قوله تعالى : (ثُمَ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ، والله أعلم.
قال الفراء : وقال ابن عباس : (ثُمَ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) : صَعِد ، وهذا كَقولِك للرجل : كان قائما فاستوَى قاعِدا ، وكان قاعدا فاستوَى قائما وكُلٌّ في كلام العَرَب جائز.
وأخبَرَني المنذريُّ عن أحمد بن يحيى أنه قال في قول الله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] ، قال : الاستواء : الإقبال على الشيء.
وقال الأخفش : استَوى أي علا ، ويقول : استوَيْتُ فوقَ الدّابة ، وعلى ظهر الدَّابة ، أي : عَلَوْته.
وقَال الزَّجَّاج : قال قومٌ في قوله عزوجل : (ثُمَ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) عَمَد وقَصَد إلى السّماء ، كما تقول : فَرَغ الأميرُ مِن بلدِ كذا وكذا ، ثم استَوى إلى بلدِ كذا وكذا ، معناه : قَصَد بالاستواء إليه.
قال : وقول ابن عبَّاس في قوله : (ثُمَ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : صَعِد ، معنى قول ابن عباس ، أي : صَعد أمرُه إلى السَّماء. وقولُ الله جلَّ وعزَّ : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤] ، قيل : إنّ معنى (اسْتَوى) ههُنا بلغَ الأربعين.
قلت : وكلامُ العَرَب أن المجتمِع من الرجال والمستوِيَ هو الذي تمّ شَبابُه ، وذلك إذا تمّت له ثمان وعشرون سَنة فيكون حينئذ مجتمِعا ومستوِيا إلى أن تتمّ له ثلاثٌ وثلاثُون سَنَةً ، ثم يَدخُل في حَدِّ الكُهولة ، ويَحتمل أن يكون بُلوغُ الأربعين غايةَ الاستواء وكمال العقل والحُنْكة ، والله أعلم.
وقال الليث : الاستواء فِعْلٌ لازمٌ ، من قولك : سوَّيْتُه فاستَوَى.