ويروى أن الجنيد (١) ـ قدس الله سره ـ طاف بالبيت فى جوف الليل ، فسمع جارية تطوف وهى تقول شعرا :
أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته |
|
فأصبح عندى قد أناخ وطنّبا |
إذا اشتد شوقى هام قلبى بذكره |
|
وإن رمت قربا من حبيبى تقرّبا |
فقلت لها : يا جارية ، أما تتقين الله تعالى تتكلمين فى مثل هذا المكان بمثل هذا الكلام ، فالتفتت إلىّ وقالت : يا جنيد :
لو لا التقى لم ترنى |
|
أهجر طيب الوسن |
إنّ التقا شرّدنى |
|
كما ترى من وطنى |
أفرّ من وجدى به |
|
فحبّه هيّمنى |
ثم قالت : يا جنيد تطوف بالبيت أم برب البيت؟ فقلت : أطوف بالبيت ، فرفعت رأسها ، وقالت : سبحانك ما أعظم شأنك على خلقك ؛ خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار ، ثم أنشأت تقول :
يطوفون بالأحجار يبغون قربا |
|
إليك وهم أقسى قلوبا من الصخر |
قال الجنيد : فغشى علىّ من قولها ، فلما أفقت لم أرها (٢).
وما أحسن كلام أبى يزيد ـ قدس الله سره ـ فى هذا المعنى قال : الحجاج يطوفون حول البيت يطلبون البقاء ، وأهل المحبة يطوفون حول العرش يطلبون اللقاء.
وقال الشيخ أبو الحسن الخرقانى قدس الله سره : القبلة خمس : فالكعبة قبلة المؤمنين ؛ وبيت المقدس قبلة الأنبياء ، والبيت المعمور قبلة الملائكة ، والعرش قبلة الدعاء ، والحق تعالى قبلة أحبابه ، فأين ما تولوا فثم وجه الله ، والحمد لله الذى هو قبلة أحبابه.
__________________
(١) هو : الإمام الحجة جنيد بن محمد بن جنيد البغدادى ، واحد من كبار علماء التصوف ، وهو الذى أوضح معالم التصوف وضبطها ؛ فجاء بطريقة التصوف الصحيح الذى ينضبط بالشرع.
(٢) هداية السالك ١ / ١٦٣ ، صفة الصفوة ٤ / ٣٣٨ ، مثير الغرام الساكن (ص : ٢٩٥).