وإمساكه بالخبل ، ولم يكن أحد ممّن سلف من خلفاء بني العبّاس ظهر في مجلسه اللعب والمضاحك والهزل ممّا قد استفاض في الناس وجوب تركه إلّا المتوكّل فإنّه السابق إلى ذلك والمحدث له ، وأحدث أشياء من نوع ما ذكر فتبعه فيها الأغلب من خواصّه وأكثر رعيّته ، ولم يكن في وزرائه والمتقدّمين من كتّابه وقوّاده ومن يوصف بجود والإفضال أو يتعالى عن مجون وطرب ، وكان الفتح بن الخاقان التركي أغلب الناس عليه وأقربهم منه وأكثرهم تقدّما عنده ولم يكن الفتح مع هذه المنزلة من الخلافة ممّن يرجى فضله ويخاف شرّه ، وكان له نصيب من العلم ومنزلة من الأدب ، وألّف كتابا في الأدب ترجمه بكتاب البستان.
قال المسعودي : ذكر محمّد بن أبي عون قال : حضرت مجلس المتوكّل في يوم نيروز وعنده محمّد بن عبد الله بن طاهر وبين يديه الخليع الشاعر ، فغمز المتوكّل خادما على رأسه حسن الصورة أن يسقي الخليع كأسا ويحيّه بتفّاحة عنبر ، ففعل ذلك ثمّ التفت المتوكّل إلى الخليع فقال : قل فيه أبياتا ، فأنشأ يقول :
وكالدرّة البيضاء حيّا بعنبر |
|
من الورد يسعى في قراطيس كالورد |
له عبثات عند كلّ تحيّة |
|
بعينيه تستدعى الحليّ إلى الوجد |
تمنّيت أن أسقي بعينيه شربة |
|
تذكّرني ما قد نسيت من العهد |
سقى الله دهرا لم أبت فيه ساعة |
|
من الليل إلّا من يجيب على وعد |
قال المتوكّل : أحسنت ، والله يعطى لكلّ بيت مائة دينار.
فقال محمّد بن عبد الله : ولقد أجاد فأسرع ، وذكر فأوجع ، ولو لا أنّ يد أمير المؤمنين لا تطاولها يد لأجزلت له العطاء ولو بالطارف والتالد.
فقال المتوكّل عند ذلك : يعطى لكلّ بيت ألف دينار.
قال : وقد قيل : إنّه لم تكن النفقات في عصر من الأعصار ولا وقت من الأوقات مثلها في أيّام المتوكّل. ويقال : إنّه أنفق على الهاروني والجوسق والجعفري أكثر من