قال اليعقوبي في البلدان (١) يصف بغداد والعراق : إنّ بغداد وسط الدنيا لأنّها على ما أجمع عليه قول الحساب وتضمّنته كتب الأوائل من الحكماء في الإقليم الرابع وهو الإقليم الأوسط الذي يعتدل فيه الهواء في جميع الأزمان والفصول فيكون الحرّ بها شديدا في أيّام القيظ ، والبرد شديدا في أيّام الشتاء ، ويعتدل الفصلان الخريف والربيع في أوقاتهما ، ويكون دخول الخريف إلى الشتاء غير متبائن الهواء ، ودخول الربيع إلى الصيف غير متبائن الهواء ، وكذلك كلّ فصل ينتقل من هواء إلى هواء ، ومن زمان إلى زمان ، فلذلك اعتدل الهواء ، وطاب الثرى ، وعذب الماء ، وزكت الأشجار ، وطابت الثمار ، وأخصبت الزروع ، وكثرت الخيرات ، وقرب مستنبط معينها ، وباعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء حسنت أخلاق أهلها ، ونضرت وجوههم ، وانفتقت أذهانهم ، حتّى فضّلوا الناس في العلم والفهم والأدب والنظر والتميز والصناعات والمكاسب ، والحذق بكلّ مناظرة ، وإحكام كلّ مهنة وإتقان كلّ صناعة ، فليس عالم أعلم من عالمهم ، ولا أروى من راويهم ، ولا أجدل من متكلّمهم ، ولا أعرب من نحويهم ولا أصحّ من قاريهم ، ولا أمهر من متطبّبهم ، ولا أحذق من مغنّيهم ، ولا ألطف من صانعهم ، ولا أكتب من كاتبهم ، ولا أبين من منطيقهم ، ولا أعبد من عابدهم ، ولا أورع من زاهدهم ، ولا أفقه من حاكمهم ، ولا أخطب من خطيبهم ، ولا أشعر من شاعرهم ، ولا أفتك من جنديهم.
إلى أن قال : فلمّا أفضت الخلافة إلى ولد العبّاس بن عبد المطّلب عرفوا بحسن تميزهم وصحّة عقولهم وكمال آرائهم فضل العراق وجلالتها وسعتها ووسطها للدنيا وأنّها ليست كالشام الوبيئة الهواء ، الضيّقة المنازل ، الحزنة الأرض ، المتصلة الطواعين ، الجافية الأهل. ولا كمصر المتغيّرة الهواء ، الكثيرة الوباء ، التي هي بين
__________________
(١) البلدان : ٣.