وكانت الدار على هيئتها إلى خلافة المعتضد لأنّ أهل محلّة العسكر كانوا على حالهم لعدم المداخلة في أمر الخلفاء والأمراء حين اختلّت أمور سامرّاء ، وسار المعتمد منها إلى حرب يعقوب بن الليث الصفّار وسمع الناس أيضا بخروج صاحب الزنج في البصرة وغلب الأتراك في سامرّاء بعضهم على بعض ، وتوفّي عبيد الله بن خاقان فجأة ، وعوقب الناس بالظنّ والتهمة ، وهاجر الناس منها إلى بغداد حتّى أخليت سامرّاء غير محلّة العسكر إلى حدود سنة ثمانين ومأتين ، وفي تلك السنة أرسل المعتضد (١) رشيق المازراني ـ كما رواه الشيخ في كتابه الغيبة وغيره ، قال رشيق :
بعث إلينا المعتضد ونحن ثلاثة نفر فأمرنا أن يركب كلّ واحد منّا فرسا نجيبا ونخرج مختفيا لا يكون معنا قليل ولا كثير ، وقال لنا : الحقوا بسامرّاء ووصف لنا دارا ومحلّة وقال : إذا أتيتموها تجدون على الباب خادما أسود ، فاكبسوا الدار ، فمن رأيتموه فيها فأتوني برأسه.
فوافينا سامرّاء فوجدنا الأمر كما وصفه ، وفي الدهليز خادم أسود ، وفي يده تكّة ينسجها ، فسألناه عن الدار ومن فيها ، فقال : صاحبها ، فو الله ما التفت إلينا وقلّ اكتراثه بنا ، فكبسنا الدار كما أمرنا فوجدنا دارا سرية ومقابل الدار ستر ، ما نظرت قطّ إلى أنبل منه ، كأنّ الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت ، ولم نر في الدار أحدا ، فرفعنا الستر فإذا به بيت كبير وفي آخر البيت بحر ، وفي أقصى الماء حصير قد علمنا أنّه على الماء وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة قائم يصلّي ، فلم يلتفت إلينا
__________________
(١) هو السادس عشر من الخلفاء العبّاسيّين ومدّة خلافته تسع سنين وقيل عشر سنين. توفّي وهو ابن ستّ وأربعين سنة ، وكان ملكا شجاعا مهيبا ظاهر الجبروت ، وافر العقل ، وكان يقابل الأسد وحده لشجاعته ، وكان قليل الرحمة إذا غضب ، ذا سياسة عظيمة ، وهابه الناس ورهبوه أعظم رهبة ، وسكنت الفتن في أيّامه لفرط هيبته ، فسيأتي أخباره في محلّه بصورة تفصيليّة.