فبلغ ذلك عثمان ، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ، ثم أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : أتجعل لي مثل الذي جعلت له عينا في الجنة إن اشتريتها؟ قال : نعم ، قال : قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين ، قال الحافظ ابن حجر : وإذا كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا ، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسّعها أو طولها فنسب حفرها إليه ، انتهى.
قلت : الإشكال ليس في ذكر وقوع حفر عثمان لها فقط ، بل في كون الترغيب فيها بلفظ «من حفر» إلى آخره ؛ فطريق الجمع أن يكون صلىاللهعليهوسلم قال أولا : «من اشترى بئر رومة» فاشتراها عثمان ، ثم احتاجت إلى الحفر فقال : «من حفر بئر رومة» فحفرها ، وتسميتها في هذه الرواية عينا غريب جدّا ، ولعله لاشتمال البئر على ما ينبع فيها مقابلة لها بعين في الجنة.
وقال المجد : قال أبو عبد الله بن منده : رومة الغفاري صاحب بئر رومة ، وروى حديثه ، وساق السند إلى بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال : لما قدم المهاجرون ، وساق الحديث المتقدم ، ثم قال المجد : كذا قال رومة الغفاري ، ثم قال : عين يقال لها رومة.
وقال أبو بكر الحازمي أيضا : هذه البئر تنسب إلى رومة الغفاري ، ولم يسمها عينا ، والجمع بين هذا وبين قوله في الحديث المتقدم «نعم الحفير حفيرة المزني» يعني رومة أن الذي احتفرها كان من مزينة ثم ملكها رومة الغفاري ، وذكر ابن عبد البر أنها كانت ركية ليهودي يبيع ماءها من المسلمين ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة؟ فأتى عثمان اليهوديّ فساومه بها ، فأبى أن يبيعها كلها ، فاشترى عثمان نصفها باثني عشر ألف درهم ، فجعله للمسلمين ، فقال له عثمان : إن شئت جعلت لنصيبي قربين ، وإن شئت فلي يوم ولك يوم ، فقال : بل لك يوم ولي يوم ، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين ، فلما رأى اليهودي ذلك قال : أفسدت علي ركيتي ، فاشتر النصف الآخر ، فاشتراه بثمانية آلاف درهم.
قلت : وهي بئر قديمة جاهلية ؛ لما رواه ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم أن تبّعا اليماني لما قدم المدينة كان منزله بقناة ، واحتفر البئر التي يقال لها بئر الملك ، وبه سميت ، فاستوبأ بئره تلك ، فدخلت عليه امرأة من بني زريق يقال لها فكهة ، فشكا إليها وباء بئره ، فانطلقت فأخذت حمارين أعرابيين ، فاستقت له من بئر رومة ، ثم جاءته به ، فشرب فأعجبه وقال : زيديني من هذا الماء ، فكانت تصير إليه به مقامه ، فلما خرج قال لها : يا فكهة إنه ليس معنا من الصفراء والبيضاء شيء ، ولكن لك ما تركنا من أزوادنا ومتاعنا ، فلما خرج نقلت ما بقي من أزوادهم ومتاعهم ، فيقال : إنها كانت لم تزل هي وولدها أكثر بني زريق مالا حتى جاء الإسلام.