فإذا قلنا : " ما أتاني إلا زيد" فكأنك قلت : ما أتاني رجل وحده ولا رجلان مجتمعون ولا متفرقون ، فإذا ثبتنا على هذا الحد فقلنا أتاني إلا زيد. فقد أوجبت إتيان الناس كلهم على هذه الأحوال المتضادة ، وذلك لا يجوز ولا يقصد.
وبذلك على الفرق بينهما : أنك تقول : " ما زيد إلا قائم" فتنفي عنه القعود والاضطجاع. ولا تقول : زيد إلا قائم ، فتوجب له حال إلا القيام. وهذا محال لاجتماع القعود والاصطجاع فيما توجبه له. فتأمل ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا باب ما حمل على موضع العامل في الاسم والاسم لا
على ما عمل في الاسم
ولكن الاسم وما عمل فيه في موضع اسم مرفوع أو منصوب
وذلك قولك : ما أتاني من أحد إلا زيد و" ما رأيت من أحد إلا زيدا" فإنما منعك أن تحمل الكلام على من أنه خلف أن تقول : " ما أتاني إلا من زيد".
فلما كان كذلك حمله على الموضع فجعله بدلا منه ، فكأنك قلت : ما أتاني أحد إلا فلانا ؛ لأن معنى" ما أتاني أحد" و" ما أتاني من أحد" واحد. ولكن من دخلت هاهنا توكيدا كما تدخل الباء في قولك : كفى بالشيب والإسلام وفي : " ما أنت بفاعل" و" لست بفاعل".
ومثل ذاك : " ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به" من قبل أن" بشيء" في موضع رفع في لغة بني تميم.
فلما قبح أن تحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع منصوب ، ولكنك إذا قلت : ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به ، استوت اللغتان وصارت" ما" على أقيس اللغتين. لأنك إذا قلت : ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به فكأنك قلت : ما أنت إلا شيء لا يعبأ به.
وتقول : لست بشيء إلا شيئا لا يعبأ به كأنك قلت : لست إلا شيئا لا يعبأ به. والباء هاهنا بمنزلتها فيما قال الشاعر :
يا بني لبيني لستما بيد |
|
إلا يدا ليست لها عضد (١) |
__________________
(١) البيت لأوس بن حجر ، والرواية في ديوانه ص ٤ : أبني لبيني. وانظر : ابن يعيش ٢ / ٩٠ ، والمقتضب ٤ / ٤٢١.