منه ولا أطيب ريحاً ، فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً !
ثم لم أره حتى دخلنا مكة فرأيته ليلة إلى جنب قُبَّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلي بخضوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبح ، ثم قام فصلى الغداة ، وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج ، فتبعته وإذا له غاشية وموالٍ ، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودارٌ به الناس من حوله يسلمون عليه ! فقلت لبعض من يقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد ! ولقد نظم بعض المتقدمين واقعة شقيق معه في أبيات طويلة ، اقتصرت على ذكر بعضها ، فقال :
سلْ شقيقَ البلخيّ عنه وما شا |
|
هد منه وما الذي كان أبصرْ |
قال لما حججت عاينتُ شخصاً |
|
شاحب اللون ناحلَ الجسم أسمرْ |
سائراً وحده وليس له زادٌ |
|
فما زلت دائماً أتفكر |
وتوهمتُ أنه يسأل الناس |
|
ولم أدر أنه الحجُّ الاكبر |
ثم عاينتهُ ونحنُ نزولٌ |
|
دون فيدٍ على الكثيب الاحمر |
يضع الرمل في الإناء ويشربْهُ |
|
فناديته وعقلي محير |
إسقني شربةً فناولني منه |
|
فعاينته سَويقاً وسُكر |
فسألت الحجيج من يكُ هذا |
|
قيلَ هذا الإمام موسى بن جعفر |
فهذه الكرامات العالية الأقدار الخارقة العوائد هي على التحقق جلية المناقب وزينة المزايا وغرر الصفات ، ولا يؤتاها إلا من فاضت عليه العناية الربانية أنوار التأييد ، ومرت له أخلاف التوفيق ، وأزلفته من مقام التقديس والتطهير وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » .