فأوقف عليا منه على تنقّل حاله ، وشرف ماله ، وأطلعه على ذلك سرا من أبيه (١).
ثمّ مات عامر عن قريب ، وأوصى لعليّ بكتب ، فعكف عليّ على الدّرس والمطالعة ، فحصل تحصيلات جيدا. وكان فقيها في الدولة المصريّة الإمامية ، مستبصرا في علم التأويل ، يعني تأويل الباطنيّة ، وهو قلب الحقائق ، ولبّ الإلحاد والزندقة.
ثم صار يحجّ بالنّاس على طريق السّراة والطائف خمس عشرة سنة.
وكان النّاس يقولون له : بلغنا أنّك ستملك اليمن بأسره ، فيكره ذلك ، وينكر على قائله. فلمّا كان في سنة تسع وعشرين وأربعمائة ، ثار علي بجبل مسار (٢) ، ومعه ستّون رجلا ، قد حلفوا له بمكة (٣) على الموت والقيام بالدعوة.
وآووا إلى ذروة منيعة برأس الجبل ، فلم يتمّ يومهم إلا وقد أحاط بهم عشرون ألفا ، وقالوا : إن لم تنزل وإلا قتلناك ومن معك جوعا وعطشا.
فقال : ما فعلت هذا إلا خوفا علينا وعليكم أن يملكه غيرنا ، فإن تركتموني أحرسه ، وإلا نزلت إليكم.
وخدعهم ، فانصرفوا عنه. ولم تمض عليه أشهر حتّى بناه وحصّنه ، وأتقنه ، وازداد أتباعه ، واستفحل أمره ، وأظهر الدّعوة فيما بين أصحابه لصاحب مصر المستنصر.
وكان يخاف من نجاح صاحب تهامة ، ويلاطفه ، ويعمل عليه ، فلم يزل به حتّى سقاه سما مع جارية مليحة أهداها له في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. وكتب إلى المستنصر يستأذنه في إظهار الدولة ، فأذن له. فطوى البلاد طيا ، وطوى الحصون والتّهائم. ولم تخرج سنة خمس وخمسين حتّى ملك اليمن
__________________
(١) زاد في الوفيات : «وأهله».
(٢) هكذا في الأصل ، وفي وفيات الأعيان ٣ / ٤١٢ «رأس مسار». وفي (معجم البلدان ٥ / ١٣١) : مشار : بالشين المعجمة ، قلة في أعلى موضع من جبال حراز ، منه كان مخرج الصليحي في سنة ٤٤٨ وجاهر فيه ، لم يكن فيه بناء فحصنه وأتقنه وأقام به حتى استفحل أمره ، وقال شاعر الصليحي :
كأنا وأيام الحصيب وسردد |
|
دوادم عقرن الأجلّ المظفرا |
ولم نتقدّم في سهام وبأزل |
|
وبيش ولم نفتح مشارا ومسورا |
(٣) في وفيات الأعيان ٣ / ٤١٢ : «قد حالفهم بمكة في موسم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة».