فقلت له : فعلى هذا ما رأى سيّدنا مثله. فقال : لا تقل هذا ، قال الله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (١). قلت : وقد قال تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (٢). فقال : نعم ، لو قال قائل : إنّ عيني لم تر مثلي لصدق.
قال أبو المواهب : وأنا أقول لم أر مثله ، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدّة أربعين سنة ، من لزوم الصّلوات في الصّفّ الأوّل إلّا من عذر ، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجّة ، وعدم التّطلّع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدّور. وقد أسقط ذلك عن نفسه ، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة ، وأباها بعد أن عرضت عليه ، وقلّة التفاته إلى الأمراء ، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لا تأخذه في الله لومة لائم.
قال لي : لمّا عزمت على التّحديث ، والله المطّلع أنّه ما حملني على ذلك حبّ الرئاسة والتّقدّم ، بل قلت : متى أروي كلّ ما سمعت وأيّ فائدة في كوني أخلّفه بعدي صحائف؟ فاستخرت الله تعالى واستأذنت أعيان شيوخي ورؤساء البلد ، وطفت عليهم ، فكلّ قال : ومن أحقّ بهذا منك. فشرعت في ذلك في سنة ثلاث وثلاثين.
وقال عمر بن الحاجب : حكى لي زين الأمناء أنّ الحافظ لمّا عزم على الرحلة اشترى جملا ، وتركه بالخان ، فلمّا رحل القفل تجهّز. وخرج فوجد الجمل قد مات. فقال له الجماعة الّذين خرجوا لوداعه : ارجع فما هذا فأل مبارك ، وفنّدوا عزمه ، فقال : والله لو مشيت راجلا لا أثنيت عزمي. وحمل خرجه وقماشه ، وتبع المركب ، واكترى منهم في القصير. وكانت طريقه مباركة.
وقال أبو محمد القاسم : قال لي والدي لمّا قدمت في سفري : قال لي
__________________
(١) سورة النجم ، الآية ٣٢ ـ.
(٢) سورة الضحى ، الآية ١١ ـ.