غير المتناهية أبديّة الوجود بنوعها ، فتدبّر.
لا يقال : يمكن أن يكون العلم بالأصلح اقتضى فناء الصادر الأوّل ، بل فناء العالم بجملته في وقت من الأوقات كوقت قيام الساعة بقطع فيض الوجود عنها ، وأن يكون الحكمة في ذلك إظهاره جلّ شأنه عظمته وجبروته وتفرّده بالعزّ والبقاء وقهر خلقه بالموت والفناء كما دلّ عليه الآيات والأخبار ، كقوله تعالى :
(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). (١)
لأنّا نقول : إن هذا الإظهار أيضا يقتضي أن يكون هناك من يظهر عليه ذلك ، وهو أيضا من أجزاء العالم كما أنّ قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يقتضي أن يكون هناك مملوك ويوم ، وهما أيضا من أجزاء العالم فهذا أيضا يدلّ على أنّه لا ينعدم العالم بجملته ، بل يبقى منه شيء في ذلك الوقت أيضا كما دلّ عليه قوله تعالى :
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٢)
حيث استثنى من شاء الله من ذلك وقد ذكر المفسّرون أنّ المراد بمن شاء الله في الآية الملائكة الأربعة أو الشهداء ، وحينئذ نقول إن كان الصادر الأوّل داخلا في من شاء الله ففيه المطلوب ، وكذا إن لم يكن داخلا فيهم لأنّ دلالة الآية على بقاء بعض من الخلق وأبديّته ظاهرة وهو المطلوب أيضا ، وإن لم يكن ذلك البعض هو الصادر الأوّل.
وبالجملة فهذا الإظهار لا يتوقّف على طروء الفناء على الخلق أجمعين ، ويمكن أن يكون بطروئه على غير المستثنى ولعلّ الصادر الأوّل من المستثنى ، كيف وقد عرفت أنّه أشرف الممكنات ، كما لا يتوقّف على طروء الفناء والعدم بالمرّة على غير المستثنى أيضا ، بل يمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى ذوي الأنفس بطروء الموت أي بتلاشي أجزاء أبدانهم ، وقطع علاقة نفوسهم عن أبدانهم ، وبالنسبة إلى الأجسام غير ذوات الأنفس بتبدّل الصور وتغيّر الهيئات والصفات والحالات ونحو ذلك ، كما قال الله تعالى :
(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ). (٣)
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ). (٤)
__________________
(١) غافر : ١٦.
(٢) الزمر : ٦٨.
(٣) الأنبياء : ١٠٤.
(٤) إبراهيم : ٤٨.