وأمّا المعدوم بصورته الخاصّة فبذلك البرهان أيضا ، ولأنّه لو فرضنا إمكان إعادته واعيد ، لم يكن المعاد ذلك الشخص بعينه بجميع مشخّصاته ، بل يكون خلقا جديدا ـ أي مخلوقا جديدا ـ وإن كان مماثلا للأوّل في بعض الصفات ، كما حكى الله تعالى عنهم في الآيات المتقدّمة لو أرادوا به هذا المعنى أو ما يتناوله ، والخلق الجديد بمعنى الإعادة ، وسيجيء أيضا بيان هذا.
فمن هذه الشبهة ذهبت أوهامهم إلى امتناع البعث وإنكار المعاد ، وإن كانوا قائلين بوجود الفاعل القادر المختار أيضا ، لأنّ متعلّق القدرة ينبغي أن يكون شيئا ممكنا مقدورا بالذات ، والممتنع بالذات لا يصدق عليه اسم الشيء ، فلا يكون متعلّق القدرة ، وهذا لا يستلزم نقصا في قدرة القادر المختار ، ولا في فاعليّة الفاعل ، بل النقص إنّما هو في جانب القابل ، وهذا ممّا لا ضير فيه.
وقوله تعالى حكاية عنهم : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). (١) يمكن أن يراد به هذا المعنى ، وإن كان يمكن أن يراد به نفي الفاعل المختار القادر على ذلك ، وإسناد الموت والحياة في النشأة الدنيويّة إلى الدهر أو إلى البخت والاتّفاق من غير أن يكون نشأة اخرويّة أو معاد فيها ، كما هو مذهب الدهريّة والملاحدة منهم ، ويدلّ عليه قوله تعالى حكاية عنهم :
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). (٢)
وكذلك قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (٣) محتمل للوجهين المذكورين ، وعلى الأوّل فيكون المراد بقوله : (بَلى قادِرِينَ) إثبات أنّ جمع العظام ممّا هو متعلّق القدرة ، وليس فيه إعادة المعدوم بالمرّة ، ولا هو بممتنع بالذات على ما سيأتي بيانه ، وعلى الثاني فيكون المراد به مضافا إلى ما ذكر إثبات أصل القدرة ، وإثبات الفاعل المختار القادر عليه ، فتدبّر.
وبالجملة فهذه الشبهة بالوجهين المحكيّة عن المنكرين للمعاد في الآيات المتقدّمة أعظم شبههم في ذلك ، ولهم شبه اخرى عليه ، سيأتي بيانها مع إبطالها في مواضعها.
__________________
(١) يس : ٧٨.
(٢) المؤمنون : ٣٧.
(٣) القيامة : ٣ ـ ٤.