منها : أنّ المعقول من الجواهر المفارقة إنّما يكون ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود العينيّ وعن المادّة وعلائقها.
ومنها : أنّ المعقول من الأشياء المادّية التي قيامها بالمادّة بحسب الوجود العينيّ كذلك أيضا ، سواء كانت تلك الأشياء بحسب الحدّ أيضا متعلّقة بالمادّة ، كالصّور الطبيعيّة ، أو لم تكن بحسب الحدود متعلّقة بها ، كالتّعليميّات ، مثل التقعير والتربيع والتثليث وأمثالها ممّا هو بحسب الحدّ يمكن أن يتصوّر مجرّدا عن المادّة ، لكنّه بحسب الوجود الخارجيّ متعلّق بها. وأنّ القول بأنّ الصّور الطبيعيّة والتعليميّات يجوز أن تقوم مفارقة بذاتها ، وأنّ العقل ينالها مجرّدة من غير أن يتعرّض لمادّة تقارنها ، حيث إنّ العقل لا ينال إلّا المفارقات عن المادّة ـ وهي بهذا الاعتبار معلومة ـ باطل ، وهذا القول هو ما حكاه في «الشفاء» عن أقوام من الأوائل ؛ قال (١) : «وظنّ (٢) قوم أنّ القسمة توجب وجود شيء في كلّ شيء ، كإنسانين في معنى الإنسانيّة ، إنسان فاسد محسوس ، وإنسان معقول مفارق أبديّ لا يتغيّر ، وجعلوا لكلّ واحد منهما وجودا ، فسمّوا الموجود المفارق موجودا (٣) مثاليّا ، وجعلوا لكلّ واحد من الأمور الطبيعيّة صورة مفارقة هي المعقولة ، وإيّاها يتلقّى العقل ، إذ كان المعقول أمرا لا يفسد ، وكلّ محسوس من هذه فهو فاسد.
وجعلوا العلوم والبراهين تنحو نحو هذه وإيّاها تتناول. وكان المعروف بأفلاطون ومعلّمه سقراط يفرطان في هذا الرأي ، ويقولون (٤) : إنّ للإنسانيّة معنى واحدا موجودا تشترك (٥) فيه الأشخاص وتبقى (٦) مع بطلانها ، وليس هو المعنى المحسوس المتكثّر الفاسد ، فهو إذن المعنى المعقول المفارق.
وقوم آخرون لم يروا لهذه الصّورة مفارقة بل لمباديها ، وجعلوا الأمور التعليميّة التي تفارق بالحدود مستحقّة للمفارقة بالوجود ، وجعلوا ما لا يفارق بالحدّ من الصّور الطبيعيّة لا يفارق بالذّات ، وجعلوا الصّور الطبيعيّة إنّما تتولّد بمقارنة تلك الصّور التعليميّة للمادة ،
__________________
(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ٣١٠ و٣١١.
(٢) في المصدر : فظنّ ...
(٣) وجودا مثاليّا ...
(٤) ويقولان ...
(٥) يشترك ...
(٦) ويبقى.