يمكن أن يدرك بها. وكذلك كلّ مدرك بالقوّة العاقلة لا يخلو عن كيفوفيّة ما ، وإن كان يخلو عن أينونيّة ما ، على ما بيّنا فيما سبق حال إدراك القوّة العاقلة لمدركاتها ، والحال أنّ ذاته تعالى منزه عن كيفوفيّة ما مطلقا.
والحاصل أنّ وجوده تعالى عين ذاته المقدّسة ، ولا يمكن للعقل تعرية ذاته عن ذاته حتّى يدركه.
ثمّ زاد عليهالسلام على ذلك قوله «ولا يقاس بشيء» أي لا يعرف قدره بمقياس ، إذ لا أين له ولا مقدار له حتّى يعرف بمقياس ، أو لا يقاس على شيء بمقياس عقليّ أو وهميّ أو حسّيّ ، إذ لا نظير له ولا شبيه حتّى يقاس هو عليه بمقياس.
ثمّ إنّ ذلك السّائل لمّا سمع منه عليهالسلام ذلك الكلام المتضمّن لأنّه تعالى لا يدرك بالحواسّ وقد حمله على أحد الوجهين الأوّلين ، وكان من مذهبه أنّ كلّ موجود يجب أن يكون محسوسا بالحواسّ ، وأنّ ما لا يدرك بالحواسّ لا وجود له أصلا ، فضلا عن أن يكون ربّا وصانعا ، كما نقله ابن سينا في أوّل إلهيّات الإشارات عن قوم من الأوائل وأبطله ؛ قال (١) : قد يغلب على أوهام النّاس أنّ الموجود هو المحسوس ، وأنّ ما لا يناله الحسّ بجوهره ، ففرض وجوده محال ، وأنّ ما لا يتخصّص بوضع (٢) أو مكان بذاته كالجسم ، أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم ، فلا حظّ له من الوجود ـ إلى آخر ما ذكره هنالك ـ.
أو كان من مذهبه أنّ ما لا يدرك بالحواسّ ، يكون ضعيف الوجود جدّا يستحقّ أن يقال له : إنّه لا شيء ، فكيف يمكن أن يكون صانعا للعالم؟ قال : إذا أنّه لا شيء ، أي لا يكون موجودا ، أو يكون ضعيف الوجود جدّا كاللاشيء ، وعلى التقديرين ، فلا يصحّ أن يكون ربّا خالقا للعالم ، فنفى عنه الوجود مطلقا حتّى يلزم عنه نفي الربوبيّة ، حيث إنّ نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ. فيكون معنى قوله : «إذا أنّه لا شيء» ، كما قرّر الإمام عليه
__________________
(١) شرح الإشارات ٣ / ٢ و٣.
(٢) في المصدر : بمكان أو وضع بذاته.