البدن وأعضاءه دائم الذوبان والسيلان وذات الإنسان منذ أول الصّبا إلى آخر العمر باقية فهي غيرها ، بل هي مجرّدة عن المادّة ، وأمثال ذلك من الدلائل التي أقاموها على ذلك ، جارية في نفوس الحيوانات أيضا ، فأثبت بزعمه بذلك تجرّدها أيضا ثمّ جعل شعورها بذاتها مميّزة لها بعد خراب البدن. وقد عرفت فيما سبق أنّ التعويل في تجرّد النفس الإنسانيّة إنّما هو على الدلائل التي تجري فيها ، ولا تجري في غيرها من نفوس سائر الحيوانات ، فتذكّر. وسيجيء ذكر الخلاف في حشر الحيوانات ، وتحقيق الحقّ فيه ، فانتظر.
وهذا الذي ذكرناه كلّه ، إنّما هو الكلام في البرهان الذي أقامه الشيخ على هذا المطلب ، أعني حدوث النفس الإنسانيّة بحدوث البدن ، إلّا أنّ القوم ذكروا براهين اخر أيضا عليه ، لا بأس بنقل نبذ منها وتحريرها :
منها أنّه لا سترة في أنّ النّفس الإنسانيّة التي هي مجرّدة عن المادّة لو كانت موجودة قبل البدن ، ثمّ حدث لها التعلّق به كان تعلّقها به لحوق عارض غريب به ، وقد تقرّر عندهم أنّ كلّ مجرّد عن المادّة لا يلحقه عارض غريب ، لما حقّق أنّ لحوق عارض غريب لشيء لا يكون إلّا من جهة قوّته واستعداده له ، وأنّ جهة القوّة والاستعداد راجعة إلى أمر هو في ذاته قوّة صرفة تتحصّل بالصور المقوّمة له ، وما هو إلّا الهيولى الجرمانيّة ، فيلزم من فرض تجرّد النفس الإنسانيّة عن المادّة اقترانها بها ، هذا خلف. فإذن تكون حادثة بحدوث البدن ، وهو المطلوب.
لا يقال : لعلّ النّفس الإنسانيّة كانت موجودة قبل هذا البدن الإنسانيّ ، وكانت في ضمن أبدان جسمانيّة عنصريّة أو مطلقا حادثة بحدوثها ، وكلّما فارقت بدنا من تلك الأبدان الجسمانيّة حدث بدن آخر فتعلّقت به ، إلى أن انتهت النوبة إلى هذا البدن العنصريّ الإنسانيّ.
لأنّا نقول : هذا باطل ، لأنّه تناسخ ، وسيأتي بطلانه.
لا يقال : لعلّها كانت موجودة قبل البدن الإنسانيّ العنصريّ في ضمن بدن مثاليّ نورانيّ ، ثمّ حصلت في ضمن البدن العنصريّ ، إمّا مع ذلك البدن المثاليّ النورانيّ ، حيث إنّ