الثامنة
الأصل في الاستعمال حمل اللفظ على معناه الحقيقي فيما إذا دار الأمر بين الحمل عليه وعلى المعنى المجازي ، فيحكم بكون المعنى الحقيقي هو المقصود بالإفادة ، المطلوب إفهامه من العبارة ، إلّا أن يقوم هناك قرينة صارفة عن ذلك قاضية بحمل اللفظ على غيره ، إمّا باستعمال اللفظ فيه ابتداء ، أو باستعماله في المعنى الحقيقي لينتقل منه إلى المجازي ، كما في الكناية وغيرها حسب ما مرّ.
ويدلّ عليه بعد قيام السيرة القاطعة المستمرّة من بدو وضع اللغة إلى الآن عليه النظر إلى الغاية الباعثة على التصدّي للوضع ؛ إذ الغرض من الأوضاع تسهيل الأمر في التفهيم والتفهّم حيث إنّ الإنسان مدني الطبع يحتاج في أمر معاشه ومعاده إلى أبناء نوعه ، ولا يتمّ له حوائجه من دون الاستعانة بغيره ، ولا يحصل ذلك إلّا بإبداء ما في ضميره وفهمه ما في ضمير غيره ممّا يحتاج إليه ، ولا يتسهّل له ذلك إلّا بواسطة الموضوعات اللفظيّة ؛ حيث إنّ سائر الطرق من الإشارة ونحوها لا يفي بجميع المقاصد ولا يمكن الإفهام بها في كثير من الأوقات ، ويتعسّر إفهام تمام المقصود بها في الغالب ، مضافا إلى ما يقع فيها من الخطأ والالتباس ، فلذا قضت الحكمة بتقرير اللغات وبناء الأمر في التفهيم والتفهّم على الألفاظ.
ومن البيّن أنّ الفائدة المذكورة إنّما تترتّب على ذلك بجعل الألفاظ كافية في بيان المقاصد من غير حاجة إلى ضمّ شيء من القرائن ، إذ لو توقّف الفهم على ضمّها لزم العود إلى المحذور المذكور ، مضافا إلى كونه تطويلا بلا طائل ؛ لإمكان حصول المقصود من دونه.
نعم ، قد يطلب الإجمال وعدم التصريح بخصوص المقصود في بعض المقامات ، ولذلك وغيره من الفوائد وقع الاشتراك في بعض الألفاظ ، إلّا أنّه ليس في المشترك قصور في الدلالة على المعنى وإنّما طرأه قصور في الدلالة على خصوص المراد من جهة تعدّد الأوضاع ، ولذا جعلوه مخالفا للأصل ؛ نظرا إلى منافاته للحكمة المذكورة في الجملة.