تقديم الدليل الثاني على الأوّل بمناط يعبّر عنه اصطلاحا بالحكومة ، فإنّ الدليل الحاكم متعرّض لما يكون الدليل المحكوم فاقدا لتعرّضه لفظا ودلالة.
وهكذا في مثل قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «التحيّة إكرام» أو قوله : «النحوي ليس بعالم» فلا يتحقّق التعارض والتنافي بين الدليلين ؛ إذ التعارض فرع التعرّض ، ولا منافاة بين التعرّض وعدم التعرّض ، بخلاف العامّ والخاصّ ، مثل : قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «لا تكرم الفسّاق» ؛ إذ يتحقّق التعارض بينهما في مادّة الاجتماع ، وتكون دائرة الحكومة وسيعة قد تستفاد منها فائدة التخصيص ، وقد تستفاد منها فائدة التقييد.
مثلا : إذا لاحظنا آية الوضوء مع آية الحرج ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ، ومعناه : عدم تعلّق الجعل والتشريع بالفعل الحرجي وخروجه عن دائرة الجعل ، ومعلوم أنّ آية الوضوء لا تكون متعرّضة لتعلّق الجعل وعدمه بأيّ شيء ، ومفاده : أنّ الوضوء واجب للصلاة وإن كان لازمه المجعوليّة ، فدليل الحرج متعرّض لما لم يتعرّضه دليل الوضوء ، وهذه هي نتيجة التقييد بلسان الحكومة. وإن قال في مقابل آية الوضوء : «الوضوء الحرجي ليس بواجب» يكون هذا تقييد لإطلاق الآية ، فإنّ أحد الدليلين يكون مقيّدا للآخر بمدلوله اللفظي.
فيكون ملاك تقدّم أحد الدليلين على الآخر إمّا أقوائيّة الظهور كما في تقديم الدليل الخاصّ والدليل المقيّد على العامّ والمطلق ، وإمّا تعرّض الدليل المتقدّم لما
__________________
(١) المائدة : ٦.
(٢) الحج : ٧٨.