إذا فرغنا من تعريف الاستصحاب والأقوال والخصوصيّات المبحوثة هنا ، فلنبحث في التفصيل الذي ذكره الشيخ الأنصاري قدسسره (١) بقوله : «إنّ المستصحب قد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي ، ولم أجد من فصّل فيها ، إلّا أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ـ وهو الحكم العقلي المتوصّل به إلى حكم شرعي ـ تأمّلا ؛ نظرا إلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم ، والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن يرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم ؛ لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح كلّها راجعة إلى قيود فعل المكلّف الذي هو الموضوع. فالشكّ في حكم العقل حتّى لأجل وجود الرافع لا يكون إلّا للشكّ في موضوعه ، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب كما سيجيء.
ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في وجود الرافع ، وبين أن يكون لأجل الشكّ في استعداد الحكم ؛ لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلّا بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالتالي إلى تبدّل العنوان ، ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ ، فحكمه يرجع إلى أنّ الضارّ من حيث إنّه ضارّ حرام ، ومعلوم أنّ هذه القضيّة غير قابلة للاستصحاب عند الشكّ في الضرر مع العلم بتحقّقه سابقا ؛ لأنّ قولنا : «المضرّ قبيح» حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه أبدا ، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشكّ في بقاء الضرر ، ولا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه ؛ لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضرّ ، والحكم له مقطوع البقاء ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة ؛ فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق
__________________
(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٧.