قال القرطبي : ومن هذا المعنى قوله صلىاللهعليهوسلم : «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله تعالى» (١) ولقد أحسن من قال (٢) :
ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه |
|
فإنك تردى إن فعلت وتخذل |
ودونك مخلوقاته فاعتبر بها |
|
وقل مثل ما قال الخليل المبجل |
وقيل : المراد من الآية التوحيد وفي المخاطب وجهان : أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل والثاني : أنه خطاب مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فعلى الأول يكون تهديدا وعلى الثاني يكون تسلية لقلب النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فعلى الأول تكون اللام في المنتهى للعهد المعهود في القران وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كل منتهى.
وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ) أي : لا غيره (أَضْحَكَ وَأَبْكى) يدل على أنّ كل ما يعمله الإنسان فبقضاء الله تعالى وخلقه حتى الضحك والبكاء.
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم مر على قوم من أصحابه وهم يضحكون فقال صلىاللهعليهوسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» (٣) فنزل عليه جبريل عليهالسلام فقال يا محمد إنّ الله يقول لك : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي : قضى أسبابهما فرجع إليهم صلىاللهعليهوسلم فقال ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : ائت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول : (هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي قضى أسباب الضحك والبكاء وقال بسام بن عبد الله أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم وأنشد يقول (٤) :
السنّ تضحك والأحشاء تحترق |
|
وإنما ضحكها زور ومختلق |
يا رب باك بعين لا دموع لها |
|
ورب ضاحك سنّ ما به رمق |
وقال مجاهد والكلبي أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار ، وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن لأنّ الفرح يجلب الضحك ، والحزن يجلب البكاء وقيل : إنّ الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من سائر الحيوان وقيل : القرد وحده يضحك ولا يبكي وإنّ الإبل وحدها تبكي ولا تضحك وقال يونس بن الحسين : سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال : ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم وعن عائشة قالت : «لا والله ما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم قط إن الميت يعذب ببكاء أحد ولكنه قال إنّ الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإنّ الله تعالى هو أضحك وأبكى» (٥).
تنبيه : قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) وما بعده يسميه البيانيون الطباق المتضادّ وهو نوع من البديع ، وهو : أن يذكر ضدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه ، وأضحك وأبكى لا
__________________
(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٧٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٣٤.
(٢) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٣) أخرجه البخاري في النكاح حديث ٥٢٢١ ، ومسلم في الكسوف حديث ٩٠١ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣١٢ ، والنسائي في الكسوف حديث ١٤٧٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٩٠.
(٤) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٥) أخرجه مسلم في الجنائز حديث ٩٢٩.