مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما سيقا لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فلان بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع ، ولا يريد ممنوعا ومعطى واختار هذين الموضعين المذكورين لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبائعيين يبين لاختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجها ولا سببا ، وإذا لم يعلل بأمر فلا بدّ له من موجد وهو الله تعالى بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون : سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ومما يدل على ذلك أنهم إذا عللوا الضحك قالوا : لقوّة التعجب وهو باطل ، لأنّ الإنسان ربما بهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل : لقوّة الفرح وليس كذلك لأنّ الإنسان قد يبكي لقوّة الفرح كما قال بعضهم (١) :
هجم السرور عليّ حتى أنه |
|
من عظم ما قد سرني أبكاني |
(وَأَنَّهُ هُوَ) أي : لا غيره (أَماتَ وَأَحْيا) وإن رأيتم أسبابا ظاهرة فإنها لا عبرة بها في نفس الأمر بل هو الذي خلقها أي أمات في الدنيا وأحيا في البعث وقال القرطبي : قضى أسباب الموت والحياة وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء وقيل : أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان.
(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) ثم فسرهما بقوله تعالى : (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) فإنه لو كان ذلك في يد غيره لمنع البنات لأنها مكروهة لغالب الناس.
وقوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي : تصب يشمل سائر الحيوانات لا أن ذلك مختص بآدم وحوّاء عليهماالسلام ، لأنهما ما خلقا من نطفة ، وهذا أيضا تنبيه على كمال القدرة لأنّ النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة وطباعا متباينة ، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] وقال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥].
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ) ولم يقل وأنه هو خلق كما قال تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أجيب بأن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنهما بفعل الإنسان ، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد فيهما لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم عليهالسلام أنا أحيي وأميت فأكد ذلك بالفصل ، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أنه بخلق أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) [النجم : ٤٨] حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى ، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨] ولذلك قال : (هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) [النجم : ٤٩] فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
(وَأَنَّ عَلَيْهِ) أي : خاصا به علما وقدرة (النَّشْأَةَ) أي الحياة (الْأُخْرى) للبعث يوم القيامة بعد الحياة الأولى فإن قيل : الإعادة لا تجب على الله تعالى فما معنى عليه؟ أجيب : بأنه عليه بحكم الوعد فإنه قال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) [يس : ١٢] فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة والباقون بسكون الشين
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.