قال تعالى في سورة الحاقة : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [فصلت : ١٦] وقال تعالى في حم السجدة : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] فالمراد باليوم هنا الوقت والزمان ، وقوله تعالى : (مُسْتَمِرٍّ) أي : دائم الشؤم إلى وقت نفاذ المراد منه يفيد ما تفيده الأيام ، لأنّ الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عنه الأيام ، والحكاية مذكورة هنا على سبيل الاختصار ، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز فاستمر عليهم بنحوسه ولم يبق منهم أحد إلا أهلكه ، هذا وصفها في ذاتها.
وأمّا وصفها بفعلها فيهم فذكره بقوله تعالى : (تَنْزِعُ) أي : تأخذ (النَّاسَ) أي : الذين هم صور لا ثبات لهم بأرواح التقوى من الأرض : بعضهم من وجهها ، وبعضهم من حفر حفروها ليمتنعوا بها من العذاب فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور فتقلع رؤوسهم من جثثهم.
وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ) أي حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم أعجاز نخل أي أصول نخل قطعت رؤوسها حال من الناس مقدرة. وقوله منقعر صفة لنخل باعتبار الجنس وأنث في الحاقة فقال : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] باعتبار معنى الجماعة. قال ابن عادل : وإنما ذكّر هنا وأنث هناك مراعاة للفواصل في الموضعين. وقال الرازي : ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة فقال تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) [ق : ١٠] وذلك حال عنها وهي كالوصف ، وقال تعالى : (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] و (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) فحيث قال : منقعر كان المختار ذلك لأنّ المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول لأنه ورد عليه القعر فهو مقعور ، والخاوي والباسق فاعل ، وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى : تقول : امرأة قتيل ، وأمّا الباسقات فهي فاعلات حقيقة لأنّ البسوق أمر قائم بها ، وأمّا الخاوية فهي من باب حسن الوجه لأنّ الخاوي موضعها فكأنه قال نخل خاوية المواضع ، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ.
تنبيه : الأعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشيء ، ومنه العجز لأنه يؤدي إلى تأخير الأمور ، والمنقعر المنقلع من أصله : يقال : قعرت النخلة : قلعتها من أصلها فانقعرت ، وقعرت البئر وصلت إلى قعرها ، وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى وصلت إلى قعره.
وكرّر قوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) للتهويل. وقيل : الأوّل : لما حاق بهم في الدنيا ، والثاني : لما يحيق بهم في الآخرة ، كما قال أيضا في قصتهم : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) [فصلت : ١٦].
وتقدّم تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وكرّره إيذانا بأنّ تفسير القرآن مع إعجازه لا يكون إلا بعظمة تفوت قوى البشر ، وتعجز عنها منهم القدر.
ولما انقضت قصة عاد ذكر تعالى قصة ثمود لأنها تلي قصة عاد في الفظاعة ، فقال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) أي قوم صالح عليهالسلام وقوله تعالى : (بِالنُّذُرِ) جمع نذير بمعنى منذر أي بالإنذارات التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليهالسلام إن لم يؤمنوا به.
ثم علل ذلك وعقبه بقوله تعالى : (فَقالُوا) منكرين لما جاءهم من الله تعالى غاية الإنكار (أَبَشَراً) إنكار الرسالة ، هذا النوع ليكون إنكار النبوة نبيهم على أبلغ الوجوه وهو منصوب بفعل يفسره (نَتَّبِعُهُ) الآتي.