وقولهم : (مِنَّا) نعت له أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا ، وقولهم : (واحِداً) نعت له أيضا ، ثم عظموا الإنكار بقولهم (نَتَّبِعُهُ) أي : نجاهد أنفسنا في خلع مألوفنا وما كان عليه آباؤنا ، والاستفهام بمعنى النفي والمعنى : كيف نتبعه ونحن أشد الناس قوّة وكثرة وهو واحد منّا.
ثمّ استنتجوا من هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين : (إِنَّا إِذاً) أي : إن أتبعناه (لَفِي ضَلالٍ) أي : ذهاب عن الصواب محيط بنا (وَسُعُرٍ) أي : ونيران جمع سعير فعكسوا عليه وقالوا : إن اتبعناك كنا إذا كما تقول ، وقيل : السعر الجنون يقال ناقة مسعورة قال الشاعر (١) :
كأنّ بها سعر إذا العيس هزها |
|
ذميل وإرخاء من السير متعب |
ثم استدلوا بأمر آخر ساقوه مساق الإنكار فقالوا : (أَأُلْقِيَ) أي : أنزل (الذِّكْرُ) أي : الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم بغتة في سرعة (عَلَيْهِ) لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن ، ولا توسموا فيه قبل إشارته به شيئا منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم : (مِنْ بَيْنِنا) أي : وفينا من هو أولى بذلك منه سنا وشرفا ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : بتحقيق الهمزة الأولى المفتوحة وتسهيل الثانية المضمومة كالواو ، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفا بخلاف عن أبي عمرو ولم يدخل ورش وابن كثير ألفا ، وأمّا هشام فله تسهيل الثانية وتحقيقها وإدخال الألف بينهما مع التحقيق ، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال ، وإذا وقف حمزة فله في الثانية التسهيل وإبدالها واوا والتحقيق.
ثم أضربوا عن ذلك الاستفهام لأنه بمعنى النفي بقولهم : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ) أي : بليغ في الكذب في قوله إنه أوحى إليه ما ذكر (أَشِرٌ) أي : متكبر بطر غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه فتجبر فهو يريد الترفع ، قال الله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ) أي : بوعد لا خلف فيه (غَداً) أي : في الزمن الآتي القريب وهو يوم القيامة ، لأنّ كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة.
وقرأ ابن عامر وحمزة بعد السين بتاء الخطاب وفيه وجهان : أحدهما أنه حكاية عن قول صالح عليهالسلام لقومه. والثاني : أنه خطاب من الله تعالى على جهة الالتفات ، والباقون بياء الغيبة جريا على الغيب قبله في قوله تعالى : (فَقالُوا أَبَشَراً) واختار هذه القراءة مكي ، لأنّ عليها الأكثر. (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أي : وهو هم بأن يعذبوا على تكذيبهم لنبيه صالح صلىاللهعليهوسلم ، وروي أنهم تعنتوا عليه فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء فقال تعالى : (إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أي موجدوها لهم ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الأحجار دلالة على إرسالنا صالحا عليهالسلام : مخصصين له من بين قومه وذلك أنهم قالوا لصالح عليهالسلام نريد أن نعرف المحق ، منا بأن ندعوا آلهتنا وتدعو إلهاك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق فدعوا أوثانهم فلم تجبهم ، فقالوا : ادع أنت فقال : فما تريدون؟ قالوا : تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء وبراء ، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان ، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعدما كذبوا في أنّ آلهتهم تجيبهم ، وصدق هو عليهالسلام في كل ما قال فأخبره ربه
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.