وقال النحاس : أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عزوجل فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عزوجل وانقيادها له ، ومن الحيوان كذلك.
فإن قيل : كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ أجيب بأنه استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أنّ الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له.
فإن قيل : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ أجيب : بأنّ الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل ، فإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين ، وأنّ جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله تعالى فهو مناسب لسجود النجم والشجر.
(وَالسَّماءَ) أي : ورفع السماء ثم فسر ناصبها فيكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدّة ما فيها من الحكم فقال تعالى : (رَفَعَها) أي حسا قال البقاعي : بعد ما كانت ملتصقة بالأرض ففتقها وأعلاها عنها ؛ وقال الزمخشري وتبعه البيضاوي : خلقها مرفوعة ؛ قال البيضاوي : محلا ورتبه ، وقال الزمخشري : حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه.
(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي : العدل الذي دبر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا كما قال صلىاللهعليهوسلم : «بالعدل قامت السموات والأرض» (١) وقال السدي : وضع في الأرض العدل الذي أمر به يقال وضع الله الشريعة ووضع فلان كذا أي : ألفه. وقيل على هذا الميزان القرآن لأنّ فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل ، وقال الحسن وقتادة والضحاك هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [الرحمن : ٩] والقسط هو العدل ؛ وقيل هو الحكم ، وقيل المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال.
أن أي : لأجل أن (لا تطغوا) أي : تتجاوزوا الحدود (فِي الْمِيزانِ) فمن قال : الميزان العدل قال : طغيانه الجور ؛ ومن قال : إنه الميزان الذي يوزن به قال : طغيانه البخس قال ابن عباس : لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال : يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس المكيال والميزان ومن قال : إنه الحكم قال : طغيانه التحريف. وقيل فيه إضمار أي : وضع الميزان وأمركم أن لا تطغوا فيه.
فإن قيل : إذا كان المراد به ما يوزن به فأيّ نعمة عظيمة فيه حتى يعدّ في الآلاء؟ أجيب : بأنّ النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد أن يغلبه غيره ولو في الشيء اليسير ، ويرى أنّ ذلك استهانة به فلا يترك خصمه يغلبه فوضع الله تعالى معيارا بيّن به التساوي ولا تقع به البغضاء بين الناس وهو الميزان ، وهو كل ما توزن به الأشياء بين الناس ، ويعرف مقاديرها به من ميزان ومكيال ومقياس ، فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا
__________________
(١) روي الحديث بلفظ : «خلق الله السموات والأرض بالعدل». أخرجه بهذا اللفظ القرطبي في تفسيره ١٣ / ٢٤٦.