أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها وبست الأبل وأبسستها لغتان إذا زجرتها ، وقلت : بس بس قاله أبو زيد ؛ وقال الحسن : بست قلعت من أصلها فذهبت ، ونظيرها ينسفها ربي نسفا ؛ وقال عطية : بسطت بالرمل والتراب (فَكانَتْ) أي : بسبب ذلك (هَباءً) أي : غبارا هو في غاية الانسحاق وإلى شدّة لطافته أشار بصفته فقال تعالى : (مُنْبَثًّا) أي : منتشر متفرّقا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه ، فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من كوّة ؛ وعن ابن عباس : هو ما تطاير من النار إذا أضرمت يطير منها شرر ، فإذا وقع لم يكن شيئا (وَكُنْتُمْ) أي : قسمتم بما كان في جبلاتكم وطبائعكم في الدنيا (أَزْواجاً) أي : أصنافا (ثَلاثَةً) كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة ؛ قال البيضاوي : وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.
ثم بين من هم بقوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم مبتدأ ، وقوله تعالى : (ما) استفهام فيه تعظيم مبتدأ ثان ، وقوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأوّل ، وتكرير المبتدأ بلفظه مغن عن الضمير ، ومثله (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٢](الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ١ ـ ٢] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التعظيم.
ولما ذكر الناجين بقسميهم أتبعهم أضدادهم بقوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي : الشمال وهم الذي يؤتون كتبهم بشمائلهم وقوله تعالى : (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) تحقير لشأنه بدخولهم النار ، وقال السدي : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، والمشأمة الميسرة وكذا الشامة والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمي وللجانب الشمال الأشآم وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليمن ولما جاء عن الشمال الشؤم ، قال البغوي : ومنه سمى الشأم واليمن ، لأنّ اليمن عن يمين الكعبة ، والشام عن شمالها ؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرّية من صلبه ، فقال الله تعالى لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي ؛ وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ؛ وقال ابن جريج : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم أصحاب الحسنات (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) هم (أصحاب السيئات).
وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال : فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى قال : فقال : مرحبا بالنبيّ الصالح والابن الصالح ، قال : قلت : يا جبريل من هذا؟ قال : آدم عليهالسلام وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه ، فأهل اليمين أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار» (١). وذكر الحديث وقال المبرّد : أصحاب الميمنة : أصحاب التقدّم وأصحاب المشأمة : أصحاب التأخر والعرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك ، أي : اجعلني من المتقدّمين ، ولا تجعلني من المتأخرين.
تنبيه : الفاء في قوله تعالى : (فَأَصْحابُ) تدل على التقسيم وبيان ما ورد عليه التقسيم ، كأنه قال : أزواجا ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون ، ثم بين حال كل قسم فقال : فأما أصحاب الميمنة وترك التقسيم أولا واكتفى بما يدل عليه بأنّ ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٤٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٦٣.