فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ المشأمة في مقابلة الميمنة مع أنه قال في بيان أحوالهم : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟ أجيب : بأنّ اليمين وضع للجانب المعروف ، واستعملوا منه ألفاظا في مواضع ، فقالوا : هذا ميمون تيمنا به ، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، واستعملوا منه ألفاظا تشاؤما به فذكر المشأمة في مقابلة الميمنة ، وذكر الشمال في مقابلة اليمين ، فاستعمل كل لفظ مع مقابلة.
ولما ذكر تعالى القسمين وكان كل منهما قسمين ذكر أعلى أهل القسم الأوّل ترغيبا في حسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيبا في سوء حالهم فقال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ) أي : إلى أعمال الطاعة مبتدأ وقوله تعالى : (السَّابِقُونَ) تأكيد عن المهدوي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» (١). وقال محمد بن كعب القرظي : هم الأنبياء عليهمالسلام ، وقال الحسن وقتادة : السابقون إلى الإيمان من كل أمّة ؛ وقال محمد بن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠] وقال مجاهد والضحاك : هم السابقون إلى الجهاد وأوّل الناس رواحا إلى الصلاة ؛ وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : هم السابقون إلى الصلوات الخمس ؛ وقال سعيد بن جبير : إلى التوبة وأعمال البرّ ، قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ١٣٣] ثم أثنى عليهم فقال تعالى (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [المؤمنون : ٦١] وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أربعة : منهم سابق أمّة موسى عليهالسلام وهو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وسابق أمّة عيسى عليهالسلام وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية ، وسابقا أمة محمد صلىاللهعليهوسلم وهما : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال سميط بن عجلان : الناس ثلاثة : رجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة ، وقيل : هم أوّل الناس رواحا إلى المسجد وأولهم خروجا في سبيل الله.
وخبر المبتدأ (أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة جدا (الْمُقَرَّبُونَ) أي : الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم واصطفاهم الله تعالى للسبق ، فأرادهم لقربه ولو لا فضله في تقريبهم لم يكونوا سابقين ؛ قال الرازي في اللوامع : المقرّبون تخلصوا من نفوسهم وأعمالهم كلها لله تعالى دينا ودنيا من حق الله تعالى ، وحق الناس وكلاهما عندهم حق الله تعالى ، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد ، وهم صنفان : صنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبته فالحق يستعملهم في وصف آخر قد أرخى من عنانه والأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز بقلبه هذه الخطة ، ومحله أعلى فهو أمين الله تعالى في أرضه فيكون عليه أوسع ا. ه.
ثم بين تقريبه لهم بقوله تعالى : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي : الذي لا كدر فيه بوجه ولا منغص ولما ذكر السابقين فصلهم بقوله تعالى : (ثُلَّةٌ) أي : جماعة وقيدها الزمخشري بالكثيرة وأنشد (٢) :
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٦٧ ، ٦٩.
(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.