ولما لم يكن بعد الأكل والشراب أشهى من النساء قال تعالى : (وَحُورٌ) أي : نساء شديدات سواد العيون وبياضها (عِينٌ) أي : ضخام العيون وقرأ حمزة والكسائي بخفض الاسمين عطفا على سرر ، فإنّ النساء في معنى المتكأ لأنهن يسمين فراشا ، والباقون بالرفع عطفا على ولدان (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي : المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء ، فيكون في نهاية الصفاء ؛ قال البغوي : ويروى أنه يسطع نور في الجنة فيقولون : ما هذا؟ فيقال : ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها ويروى أنّ الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقها ، وتمجيد الأسورة من ساعديها ، وأنّ عقد الياقوت يضحك في نحرها ، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح. ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أنّ أعمالهم كانت كذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل فقال تعالى : (جَزاءً) أي : فعل ذلك لهم لأجل الجزاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : يجدّدون عمله على جهة الاستمرار ، قالت المعتزلة : هذا يدل على أنّ إيصال الثواب واجب على الله تعالى ، لأنّ الجزاء لا يجوز الإخلال به ، وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروه لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة ، لأنّ العقل إذا حكم بأنّ ترك الجزاء قبيح ، وعلم بالعقل أنّ القبيح من الله تعالى لا يوجد علم أنّ الله تعالى يعطي هذه الأشياء لأنها جزاؤه ، وإيصال الجزاء واجب ، فكان لا يصح التمدح به (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي : شيئا مما لا ينفع واللغو الساقط (وَلا تَأْثِيماً) أي : ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الأثم بل حركاتهم وسكناتهم كلها في رضا الله تعالى ؛ وقال ابن عباس رضى الله عنهما : باطلا وكذبا ؛ قال محمد بن كعب : ولا تأثيما أي : لا يؤثم بعضهم بعضا ؛ وقال مجاهد : لا يسمعون شتما ولا مأثما وقوله تعالى : (إِلَّا قِيلاً) فيه قولان أحدهما : أنه استثناء منقطع وهذا واضح لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم ، والثاني : أنه متصل وفيه بعد ؛ قال ابن عادل فكان هذا رأى أنّ الأصل لا يسمعون فيها كلاما فاندرج عنده فيه ؛ ثم بين تعالى ذلك بقوله : (سَلاماً سَلاماً) أي قولا سلاما ، قال عطاء : يحيى بعضهم بعضا بالسلام ، أو تحيهم الملائكة ، أو يحييهم ربهم ؛ ودل على دوامه بتكريره فقال تعالى : (سَلاماً) ففيه إشارة إلى كثرة السلام عليهم ولهذا لم يكرر في قوله تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وقال القرطبي : السلام الثاني بدل من الأوّل ، والمعنى : إلا قولا يسلم فيه من اللغو.
ولما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى :
(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨))
(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم فقال تعالى : (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) فإن قيل : ما الحكمة في ذكرهم بلفظ أصحاب الميمنة عند تقسيم الأزواج الثلاثة