بالقرآن إلى أرض العدوّ» (١). أراد به المصحف وقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ) خبر بمعنى النهي ولو كان باقيا على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى : (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضى الله عنهما ؛ وقال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر» (٢) ، وقال ابن عمر قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» (٣) وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فقام فاغتسل وأسلم ، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى.
وقال ابن عباس : (مَكْنُونٍ) محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء ، وقال جابر : هو اللوح المحفوظ ، أي : لقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ـ ٢٢] وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ، وقال السدي : الزبور وقيل : لا من «لا يمسه» نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان : أحدهما : أن محلها الجرّ صفة لكتاب ، والمراد به : إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة ، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم ، والثاني : محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين : الملائكة فقط أي : لا يطلع عليه ، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل : إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] ولكنه أدغم ، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب ، وفي الحديث : «إنا لم نرده عليكما لأننا حرم» (٤) بضم الدال ، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفا ، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهيا كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره.
واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم ، وقال الكلبي : هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك ، وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس : ١٣ ـ ١٦] وقيل : معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي : إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٢٩ ، ومسلم في الإمارة حديث ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، وأبو داود في الجهاد باب ٨١ ، وابن ماجه في الجهاد باب ٤٥ ، ومالك في الجهاد حديث ٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٦ ، ٧ ، ١٠ ، ٥٥ ، ٦٣ ، ٧٦ ، ١٢٨.
(٢) أخرجه الدارمي في الطلاق حديث ٢٢٦٦ ، ومالك في مسّ القرآن حديث ١.
(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ٤٨٥ ، والطبراني في المعجم الكبير ٣ / ٢٣٠ ، ٩ / ٣٣ ، والدارقطني في سننه ١ / ١٢٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٨٢٩.
(٤) أخرجه البخاري في الحج حديث ١٨٢٥ ، ومسلم في الحج حديث ١١٩٣ ، والترمذي في الحج حديث ٨٤٩ ، والنسائي في المناسك حديث ٢٨١٩ ، وابن ماجه في المناسك حديث ٣٠٩٠.