الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون ، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال : المطهرون يعني المتطهرون.
تنبيه : اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي ، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما ، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها ؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كتب إلى هرقل كتابا فيه قرآن ، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه ، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار ، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى ، وبأنه يجوز حمله في أمتعة.
وأجيب عن الأوّل : بأنّ ذلك الكتاب كان فيه آيتان ولا يسمى مصحفا ولا ما في معناه وبأنه لو كان كتابا قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصودا فجاز تغليبا للمقصود فيه ، وعن الثاني : بأنه أبيح للصبيان للضرورة لأنهم غير مكلفين ، وعن الثالث : بأن القراءة أبيحت للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وبأنا لا نسلم الأولوية المذكورة بدليل أن الكافر لا يمنع من القراءة ويمنع من حمل المصحف ومسه ، وعن الرابع : بأن جواز حمل المصحف في الأمتعة محله إذا لم يكن المصحف مقصود بالحمل.
وقال آخرون بحرمة المس دون الحمل واحتجوا بأنّ المحرم يحرم عليه مس الطيب دون حمله ، وأجيب عنه : بأنه غير صحيح لأنّ حمل المصحف أبلغ في الاستيلاء عليه من مسه ، فلما حرم الأدنى كان تحريم الأعلى أولى ولأن تحريم المصحف إنما هو لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله بخلاف طيب المحرم فإنّ تحريمه مقصور على الاستمتاع به وليس في حمله استمتاع به ، ولو لف كمه على يده وقلب به أوراق المصحف حرم عليه لأنّ القلب يقع باليد لا بالكم بخلاف قلب ذلك بعود ، ويحرم كتب شيء من القرآن أو من أسماءه تعالى بنجس أو على نجس ومسه به إذا كان غير معفو عنه ، ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه في يد كافر جاز حمله مع الحدث بل يجب ذلك صيانة للمصحف ، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث ويلزمه أن يتيمم إن وجد التراب ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم للنهي عنه في الصحيحين ، وخرج بالمصحف غيره نحو كتب الفقه والحديث وكتب التفسير ، فلا يحرم حملها ولا مسها إلا أن يكون القرآن أكثر من التفسير أو مساويا له فيحرم الحمل والمس لأنه حينئذ في معنى المصحف وفي ذلك زيادة ذكرتها في شرح المنهاج وغيره.
وقوله تعالى : (تَنْزِيلٌ) أي : منزل إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للإفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم إلى حكم بوسائط الرسل من الملائكة (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : الخالق العالم بتربيتهم صفة القرآن أي : القرآن منزل من عند رب العالمين سمى المنزل تنزيلا على اتساع اللغة كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] وأوثر المصدر لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر ، وفي ذلك رد على قول من قال : بأن القرآن شعر أو سحر أو كهانة.