الفتح الحكم لقوله تعالى (افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩] وقوله تعالى (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) [سبأ : ٢٦] فمن قال هو فتح مكة قال لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه أحدها ها انتم أنه تعالى لما قال (هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [محمد : ٣٨] إلى أن قال (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) [محمد : ٣٨] بين تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
ثانيها : لما قال تعالى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) [محمد : ٣٥] وقال تعالى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) [محمد : ٣٥] بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون. ثالثها لما قال تعالى (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) [محمد : ٣٥] وكان معناه لا تسألوا الصلح بل اصبروا فإنكم تسألوا الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين فإن قيل : إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت. فكيف قال تعالى : (فَتَحْنا) بلفظ الماضي أجيب من وجهين : أحدهما فتحنا في حكمنا وتقديرنا.
ثانيهما : ما قدّره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر واقع لا دافع له. وأمّا حجة قول الأكثرين على أنه صلح الحديبية فلما روى البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلىاللهعليهوسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناء فتوضأ ثم تمضمض ودعا وصبه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه» (١) وقيل : جاش حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقال الشعبي في قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال فتح الحديبية غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وأطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري : ولم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية. وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر سواد الإسلام. وقال البغوى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي : قضينا لك قضاء مبينا. وقال الضحاك : أي بغير مال وكان الصلح من الفتح.
واختلف قول المفسرين في معنى اللام في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) أي : الملك الأعظم. فقال البيضاوي : علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة وقال البغوي : قيل : اللام لام كي معناه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح. وقال الجلال المحلي : اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب. وقال بعضهم : إنها لام القسم. والأصل ليغفرن فكسرت اللام تشبيها بلام كي وحذفت النون وردّ هذا : بأنّ اللام لا تكسر وبأنها لا تنصب المضارع ، قال ابن عادل : وقد يقال إنّ هذا ليس بنصب ، وإنما هو بقاء الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها ولكنه قول مردود. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت : لم يجعل علة للمغفرة ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط
__________________
(١) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١٥٠.