والحال أنّ كل من له نوع بصيرة يعلم أنّ الملك الأعلى هو الذي له وحده (الْعِزَّةُ) أي : الغلبة كلها (وَلِرَسُولِهِ) لأنّ عزتّه من عزته (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فعزة الله قهره من دونه ، وكل من عداه دونه وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها ، وعزة المؤمنين نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ) أي : الذين استحكم فيهم مرض القلوب (لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يوجد لهم علم الآن ، ولا يتجدد في حين من الأحيان فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف.
روي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت هذه الآيات بسببه كما مرّ إلى أبيه ، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقته ، وقال : أنت والله الذليل ورسول الله صلىاللهعليهوسلم العزيز. ولما أراد أن يدخل المدينة عبد الله بن أبي اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله غير رسول الله صلىاللهعليهوسلم اسمه ، وقال «إن حبابا اسم شيطان» (١) وكان مخلصا ، وقال : وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيسا في يده حتى أمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتخليته. وروي أنه قال : لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربنّ عنقك ، فقال : ويحك أفاعل أنت؟ قال : نعم ، فلما رأى منه الجدّ ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لابنه «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا» (٢).
فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله تعالى : (لا يَفْقَهُونَ) وختم الثانية بقوله تعالى : (لا يَعْلَمُونَ؟.)
أجيب : بأنه ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم ، وبالثانية حماقتهم وجهلهم. ويفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم ، أو من فقه يفقه كعظم يعظم ، فالأوّل لحصول الفقه بالتكلف ، والثاني لا بالتكلف ، فالأول علاجي ، والثاني مزاجي.
ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين فقال تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان ، وقلوبهم مذعنة كظواهرهم (لا تُلْهِكُمْ) أي : لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) سواء كان ذلك في إصلاحها ، أو التمتع بها بحيث تغفلون (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي : الملك الأعظم حذر المؤمنين أخلاق المنافقين ، أي : لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون ؛ إذ قالوا لأجل الشح بأموالهم (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) وقوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) قال الضحاك : أي : عن الصلوات الخمس ، نظيره : قوله تعالى : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧] وقال الحسن : عن جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله تعالى. وقيل : عن الحج والزكاة. وقيل عن قراءة القرآن ، وقيل : عن إدامة الذكر ، وقيل : هذا خطاب للمنافقين ، أي : آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب.
ولما كان التقدير فمن انتهى فهو من الفائزين عطف عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ) أي :
__________________
(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٣ / ٢ / ٩٠.
(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.