يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده (وَتَوَلَّوْا) عن الإيمان.
فإن قيل : قوله تعالى : (فَكَفَرُوا) تعميم يفهم منه التولي فما الحاجة إلى ذكره؟ أجيب : بأنهم كفروا وقالوا : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية ، وهذا هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولا يدل على التولي ، فلهذا قال : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ،) وقيل : كفروا بالرسل وتولوا بالبرهان ، وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
ونبه بقوله تعالى : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه على أن هذا إنما هو لمصالح الخلق فهو غني عن كل شيء.
فإن قيل : قوله تعالى : (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) يوهم وجود التولي والاستغناء معا ، والله تعالى لم يزل غنيا؟ أجيب : بأن معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك (وَاللهُ) أي : المستجمع لصفات الكمال (غَنِيٌ) عن خلقه (حَمِيدٌ) أي : محمود في أفعاله.
(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى ، ولو على أدنى الوجوب. وزعم قال ابن عربي : كنية الكذب ، وقال الزمخشري : الزعم ادعاء العلم ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «زعموا مطية الكذب» (١) وعن شريح : لكل شيء كنية ، وكنية الكذب زعموا. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود : «بئس مطية الرجال زعموا» (٢)(أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي : من أي باعث ما بوجه من الوجوه (قُلْ) أي : يا أشرف الرسل لهؤلاء البعداء (بَلى) أي : لتبعثن ثم أكد بصريح القسم فقال : (وَرَبِّي) أي : المحسن إلى بالانتقام ممن كذب بي (لَتُبْعَثُنَ) أي : بأهون شيء وأيسر أمر (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ) أي : تخبرنّ إخبارا عظيما ممن يقيمه الله تعالى لإخباركم (بِما عَمِلْتُمْ) أي : بأعمالكم لتجزون عليها (وَذلِكَ) أي : الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب (عَلَى اللهِ) أي : المحيط بصفات الكمال وحده (يَسِيرٌ) إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
فإن قيل : كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث ، وهم قد أنكروا الرسالة؟.
أجيب : بأنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقادا جازما فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون الإخبار عنده صدقا أظهر من الشمس في اعتقاده ، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسما بعد قسم.
ثم إنه تعالى لما أخبر عن البعث ، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ) أي : الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء (وَرَسُولِهِ) أي : كل من أرسله ولا سيما محمدا صلىاللهعليهوسلم (وَالنُّورِ) أي : القرآن (الَّذِي أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من العظمة ؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلالة كما يهتدى بالنور في الظلمات.
فإن قيل : هلا قيل : ونوره ، بالإضافة كما قال : ورسوله؟ أجيب بأن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة فكأنه قال : ورسوله ونوره (وَاللهُ) أي : المحيط علما وقدرة (بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٧٣.
(٢) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٩٧٢ ، وأحمد في المسند ٤ / ١١٩ ، ٥ / ٤٠١.