فإن قيل : قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) يوهم أن الخطاب بطريق العتاب ، وخطاب النبي صلىاللهعليهوسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟
أجيب : بأنه ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
فإن قيل : تحريم ما أحل الله غير ممكن ، فكيف قال (لما تحرم ما أحل الله لك) أجيب : بأن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراما بعدما أحله الله تعالى ، والنبي صلىاللهعليهوسلم امتنع من الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالا ، فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحل الله فقد كفر ، فكيف يضاف إلى النبي صلىاللهعليهوسلم (تَبْتَغِي) أي : تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي : الأحوال والأمور والمواضع التي يرضين بها ، وهن أولى بأن يبتغين رضاك ، وكذا جميع الخلق لتتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد (وَاللهُ) أي : الملك الأعلى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم ، فقد غفر لك هذا التحريم.
ثم علل وبين ذلك بقوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ) أي : قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه ، وعبر بالفرض حثا على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع ، ولا يخل بحرمة اسم الله تعالى لأن أهل الهمم العوالي لا يجوزون النقلة من عزيمة إلى رخصة ، بل من رخصة إلى عزيمة أو عزيمة إلى مثلها.
ولما كان التخفيف على أمته تعظيما له صلىاللهعليهوسلم قال تعالى : (لَكُمْ) أيتها الأمة التي أنت رأسها (تَحِلَّةَ) أي : تحليل (أَيْمانِكُمْ) بالكفارة المذكورة في سورة المائدة ، وقيل : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك : حلل فلان في يمينه إذا استثنى بمعنى استثن في يمينك إذا أطلقتها بأن تقول : إن شاء الله متصلا بحلفك ، وتنويه قبل الفراغ منه.
واختلف أهل العلم في لفظ التحريم ، فقال قوم : هو ليس بيمين ، فإن قال لزوجته : أنت حرام أو حرّمتك فإن نوى به طلاقا فهو طلاق ، وإن نوى به ظهارا فهو ظهار ، وإن نوى تحريم ذاتها وأطلق فعليه كفارة يمين وإن قال لطعام : حرمته على نفسي فلا شيء عليه ، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه ، وإليه ذهب الشافعي.
وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما ، فقال : كذبت ليست عليك بحرام وتلا عليه هذه الآية (١). وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب الكفارة ما لم يقربها ، كما لو حلف لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله ، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة ، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة.
وعند أبي حنيفة إن نوى الطلاق بالحرام كان بائنا ، وإن قال : كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، نقله الزمخشري. وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي ، وعن علي : ثلاث ، وعن زيد واحدة بائنة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها ، وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. قال مقاتل : فأعتق رسول الله صلىاللهعليهوسلم في هذه الواقعة رقبة. قال
__________________
(١) انظر سنن الدارقطني ٤ / ٤٣.