منهما ، وأما أصحاب الشمال فيعطونها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النور إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا (رَبَّنا ،) أي : أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه (أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ،) أي : الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام ، قال ابن عباس : يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقا ، وعن الحسن : لله متمه لهم ولكنهم يدعون تقربا إلى الله كقوله تعال : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر : ٥٥] وهو مغفور له ، وقيل : يقوله أدناهم منزلة لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون مواطئ أقدامهم لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلا ، وقيل : السابقون إلى الجنة يمرّون مثل البرق على الصراط ، وبعضهم كالريح وبعضهم حبوا وزحفا فأولئك الذين يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا (وَاغْفِرْ لَنا) أي : وامح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره وهذا النور من صور أعمالهم في الدنيا ، لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها ، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم ، لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل فكل فضيلة يكتنفها رذيلتان إفراط وتفريط فالفضيلة هي الصراط المستقيم والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله ، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاما ومن أمالته الشهوات طفئ نوره في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له (إِنَّكَ) أي : وحدك (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) يمكن دخول المشيئة فيه (قَدِيرٌ) أي : بالغ القدرة.
ولما ذكر ما تقدم من لينه صلىاللهعليهوسلم لأضعف الناس وحسن أدبه وكرم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم أمره سبحانه بالغلظة والشدة على أعدائه بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) أي : بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف ، وما دونه من المواعظ الحسنة والدعاء إلى الله تعالى ليعرف أن ذلك اللين لأهل الله تعالى إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك (وَالْمُنافِقِينَ ،) أي : جاهدهم بما يليق بهم من الحجة والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة وعرفهم أحوالهم في الآخرة ، وإنهم لا نور لهم يجوزون به على الصراط مع المؤمنين ، وقال الحسن : وجاهدهم بإقامة الحدود عليهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ،) بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر ، فالغلظة عليهم من اللين لله تعالى كما أنّ اللين لأهل الله من خشية الله تعالى. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها (وَمَأْواهُمْ) أي : في الآخرة (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ،) أي : هي.
ولما كان للكفار قرابات بالمسلمين ربما توهم أنها تنفعهم وللمسلين قرابات بالكفار توهم أنها تضرهم ضرب لكل مثلا ، وبدأ بالأول فقال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ ،) أي : الملك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما (مَثَلاً) يعلم به من فيه قابلية العلم ويتعظ به من له أهلية الاتعاظ (لِلَّذِينَ كَفَرُوا ،) أي : غطوا الحق على أنفسهم وعلى غيرهم وقوله تعالى : (امْرَأَتَ نُوحٍ) عليهالسلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالغرق (وَامْرَأَتَ لُوطٍ) عليهالسلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالحصب والخسف ، يجوز أن يكون بدلا من قوله : (مَثَلاً) على تقدير حذف المضاف ، أي : ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح وامرأة لوط ، ويجوز أن يكونا مفعولين ، وضرب الله تعالى هذا المثل تنبيها على أنه لا يغني أحد عن قريب ولا نسيب في الآخرة إذا فرق بينهما الدين.